في مقاله في جريدة الإندبندت (03/04/2015) شبه روبرت فيسك الاتفاق النووي بأنه سيحدث زلزالا سياسيا في الشرق الأوسط، بحيث تكون إيران شرطي أمريكا "المعتمد"، ولخص مفاعيل الاتفاق بأنّ إيران قدمت تنازلات "نووية" مؤلمة مقابل مكاسب استراتيجية سياسية ضخمة تجعل منها صاحبة الدور الأكبر إقليميا، بغطاء أمريكي معلن. بينما استنفر الكتاب السعوديون في "الشرق الأوسط" وفي "الحياة" لقرع طبول الحرب ضد إيران، فكتب خالد الدخيل بأن إيران هي العدو، ودعا عبد الرحمن الراشد إلى ضرورة شحذ السلاح الرادع لوضع حد للتغول الإيراني في المنطقة، بعد أن تحررت إيران (أو ستتحرر) من ضغوطات العقوبات الدولية المفروضة عليها، خاصة أن تلك العقوبات لم تمنعها من بسط نفوذها في لبنان وسوريا والعراق وأخيرا في اليمن، وهذا ما عبر عنه الإعلامي فيصل القاسم بقوله: "من شدة كره أمريكا لإيران سمحت لها باحتلال 4 دول عربية. كيف لو كانت تحبها لا سمح الله".
من المعروف أن "الحرب" هي استمرار للصراع السياسي بأدوات مادية، والصراع بين طرفين، يهدف إلى فرض إرادة المنتصر على المغلوب فيتحكم به وبمقدراته. والعالم لم يشهد استعمالاً للقنبلة النووية غير قنبلتي هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد أقر كل من الأدميرال ويليام ليهي أول رئيس للأركان المشتركة (1942-1949) و الجنرال جورج مارشال قائد القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بأن هزيمة اليابان كانت متحققة بدون القنبلة النووية، وأن القيادة السياسية قررت استعمالها لتوصيل رسالة للعالم كله بأن أمريكا هي الدولة الأقوى بلا منازع.
ولكن العالم شهد العديد من الحروب التقليدية مع الدول النووية خرجت منها بهزيمة مدوية، منها هزيمة فرنسا في الجزائر وفيتنام، وهزيمة أمريكا في فيتنام، وهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وهزيمة يهود أمام حزب إيران في لبنان وحماس والمقاومة في غزة.
إذن فإن مسعى إيران لحيازة القنبلة النووية، بغض النظر عما صدر من فتاوى تزعم حرمة حيازتها، لم يكن يوما بغية تحرير الأقصى ولا فلسطين. كما لم يكن "يوم القدس" في آخر جمعة من كل رمضان أكثر من عمل دعائي للمتاجرة بقبلة المسلمين الأولى، ولكن كل المشروع النووي الإيراني قام ليشكل ركنا للقوة الاستراتيجية الإيرانية التي تخوّل إيران انتحال صفة الدولة الإقليمية الكبرى. وهنا بيت القصيد في الاتفاق الأخير في لوزان - سويسرا: قدمت إيران تنازلات مؤلمة تنهي عمليا طموحها النووي، مقابل أن تتحول علاقة السِّفاح مع الشيطان الأكبر إلى "زواج متعة" (شرعي بنظر أصحابه) أمام العالم كله.
وبمراجعة سريعة لبنود الاتفاق-الإطار الممهد للاتفاق النهائي يتبين قسوة التنازلات الإيرانية، ومع أنه سبق للمرشد خامنئي أن صرّح في (21-3-2015) بأن إلغاء العقوبات المفروضة على إيران لن تكون نتيجة الاتفاق بل هي جزء حتمي وفوري فيه، إلا أن فرنسا ومعها الدول الأوروبية نجحت في اشتراط تحقق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التزام إيران بتعهداتها قبل المضي في تجميد العقوبات أولا ثم رفعها لاحقا. وقد لوحظ، حتى كتابة هذا المقال صمت خامنئي عن رأيه في الاتفاق-الإطار، فهل سيتجرّع خامنئي سمّ اتفاق لوزان مقابل العسل الأمريكي الموعود؟؟!!
ومن قبيل المفارقة التاريخية نذكّر القارئ بتصريح وزير الإجرام الأمريكي دونالد رامسفيلد أمام لجنة الكونغرس (18/9/2002) حيث برر قرار القضاء على نظام صدام حسين تحت ذريعة حيازته لأسلحة الدمار الشامل ومنها سعيه لصناعة القنبلة النووية، فحين سئل عن الأدلة التي تثبت حيازة صدام لتلك الأسلحة كان جوابه: "إننا إذا انتظرنا حتى نحصل على الدليل الدامغ، يكون حينها قد فات الأوان"، وبالتالي وبناء على نظريته التي اخترعها وسماها يومذاك: "الدفاع ضد الأخطار المجهولة" (أي التي لا نملك تحديدها بدقة وإنما نتوقع وجودها) عمل على حصول موافقة الكونغرس على القضاء على نظام صدام حسين، وهو ما جرى في العدوان الأمريكي في نيسان 2003. بينما أثبتت فرق التفتيش المكلفة من الأمم المتحدة، التي لم تترك زاوية في العراق إلا ودخلتها وصولا إلى غرف نوم صدام حسين، خلو العراق من الأسلحة المزعومة.
الغرض هنا هو التذكير بأن أمريكا أفسحت المجال عامدة متعمدة أمام نمو المشروع النووي الإيراني والقوة العسكرية التقليدية الإيرانية المتعاظمة، واستعملت إيران لتزويد حزبها في لبنان بصواريخ تصل إلى "ما بعد بعد حيفا"، وصواريخ تستهدف بوارج يهود في عرض البحر، ولاحقا التدخل الإيراني الواسع لحماية سَفَّاح دمشق العميل الأمريكي، ومكّنت إيران من جعل العراق محافظة إيرانية بالهيمنة على مقدراته. ففي 2005 (بحسب الخبير في الشؤون الإيرانية علي فايز من مجموعة الأزمات الدولية ICG) كان عدد أجهزة الطرد المركزي لدى إيران 167 جهازا وكان بالإمكان في حينها شطب المشروع النووي وإلغاؤه، أما في ظل العقوبات فقد تنامى هذا العدد ليصل إلى 19000 جهازا الآن. كما اعترف بذلك اوباما في خطابه الاسبوعي (4-4-2015).
إذن فجوهر اتفاق لوزان هو سياسي بامتياز، فقد اعتبره الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه "تفاهم تاريخي"، وقد سبق لمستشاره بنيامين رودس أن صرح أن الإتفاق مع إيران هو أهم معلم في إنجازات السياسة الخارجية لأوباما.
وهذا ما دفع جمال الخاشقجي ليكتب في الحياة (4/4/2015) بأن "عاصفة الحزم" قد ألغت كل مفاعيل الاتفاق النووي. بل و جزم بأنه: "لا مكان في اليمن الآن - وبالتالي غيرِها من بلاد العرب لاحقاً - لمستشارين إيرانيين أو من يتبعونها من ميليشيا يقتلون ويخيفون ويفرضون رؤيتهم الطائفية على مستقبل الأمة العربية، وبالتالي لم أعد أشعر باهتمام شديد إن توصل الأميركيون والأوروبيون إلى اتفاق مع إيران يعطيها الحق بالاستمرار بمشروعها النووي «السلمي» ويرفع عنها العقوبات كلياً أو جزئياً أم لم يتفقوا".
وكان السفير السعودي عادل الجبير لدى الولايات المتحدة خلال مشاركته في ندوة عقدت في مقر الكونغرس الأميركي (الخميس 1/4/2015) بعنوان "الفوضى في اليمن، التحليل والتشخيص والآفاق" ونظمها مجلس العلاقات الأميركية العربية، ذكر أنه "لم يحدث في التاريخ أن تمكنت ميليشيا من امتلاك أسلحة ثقيلة وصواريخ بالستية وطائرات، لذلك فإن عمليات التحالف مستمرة وتستهدف قواعد الأسلحة الثقيلة،... فهدفنا في النهاية هو حماية الشرعية في اليمن التي كادت أن تستولي عليها جماعة مدعومة من إيران وحزب الله". وكان لافتا في مداخلته الطويلة تكرار اتهامه لإيران وحزب الله بشكل مكثف.
من جهته دعا أوباما حكام الخليج للاجتماع به لطمأنتهم أن أمريكا تضمن أمنهم وعروشهم، وأنه قدم لهم خدمة بالقضاء على القنبلة النووية الإيرانية، وما عليهم إلا أن يستمروا بشراء الأسلحة ورهن عائدات البترول المستقبلية مقابل مظلة الأمان الأمريكية من الشيطان الأصغر الإيراني. وأضاف أن الاجتماع يهدف إلى "مناقشة كيفية حل الصراعات المتعددة التي سببت الكثير من الاضطرابات، وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط".
كل هذه التفاصيل نخرج منها بنتيجة أن هؤلاء الحكام والأنظمة، وأدواتهم من الوعاظ ومشايخ السوء وحركات الممانعة، هم مجرد دمى وعملاء للغرب الكافر وأنهم لا يرعوون عن سفك دماء المسلمين مقابل فتات أو لعاعة يتكرم بها عليهم قادة الغرب، وأنّ على الأمة أن تأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء لتنفض عنها ذل العبودية للغرب الصليبي، ولتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس، وإن ذلك لكائن لا مرية فيه، ونضرع إلى المولى عز وجل أن يكون قريبا.
رأيك في الموضوع