في إطار عرض أسباب ودواعي إجراءِ التعديلات الدستورية ضمن "المشروع التمهيدي لتعديل الدستور الجزائري" الذي صدر في 77 صفحة كمسودة معروضةٍ على مختلف الشرائح والهيئات المجتمعية وبالأخص الأحزاب والشخصيات السياسية والجهات القانونية بغرض الإثراء والمناقشةِ قبل تقديمه للاستفتاء، ورد ما يلي:
"إن المهمة التي أوكلها رئيسُ الجمهورية إلى لجنةٍ من الخبراء لمراجعة الدستور ملهِمةٌ لكل رجل قانون حريصٍ على تقديم مساهمته من أجل بناء الدولةِ الوطنية وتدعيم أساسها الديمقراطي والاجتماعي. لقد جاءت هذه المهمةُ في مرحلة متميزةٍ من تاريخ بلدنا، يتجلى مدلولها الكامل في ضرورة التكفل بالمطالب الشعبية لبناء دولةِ القانون القائمة على المواطنة الضامنةِ لحقوق وحريات كل فرد، وعلى التوازن بين مختلف السلطات العامة، وعلى رقابة أعمالها من قبل مؤسساتٍ ممثِّـلةٍ للإرادة الشعبية، وكذا على عدالة مستقلةٍ ومنصفة، كما تهدف إلى ضمان الشفافيةِ في تسيير الشئون العامة والحكمِ الراشد بوسائل مؤسساتية مناسبة".
من الضروري في هذا الظرف أن نلفت نظرَ أهلنا في الجزائر إلى حقيقة أن الوثيقة الدستورية الجديدة التي تعتزم السلطة تمريرَها عبر استفتاء شعبي يوم الفاتح من شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل تنطوي على أمور جد خطيرة سوف تمس بالنسيج المجتمعي للجزائر، إذ ستكرس كلَّ مساوئ الدستور السابق، فضلاً عن أنها لا تحمل أيَّ جديد نحو الأفضل لأهل الجزائر.
ومن أبرز ما تجدر الإشارة إليه من مآخذ في هذه الوثيقة المسائل الخمس التالية:
1- فيما يتعلق بالهوية، وهذا يُعد من أخطر ما في الدستور الجديد، تؤكد المادة 65 على أن الدولةَ سوف تسهر على حيادية المؤسسات التعليمية، وأنها ستضمن أن تتفرغ هذه الأخيرةُ لمهامها العلمية والتربوية بهدف المحافظة عليها بإبعادها عن أي تأثير سياسي أو أيديولوجي! وهو ما يعني الاعتداء الصريح على الإسلام بإقصائه وإبعاد تأثيره عبر تكريس فكرة فصل الدين عن السياسة وعن الحياة في عقول وقلوب الناشئة. ولا شك أن الغرض من ذلك هو ضرب عقيدة، أي هوية أهل البلاد، عبر تثبيت وتكريس علمنة التعليم بل علمنة الحياة في بلد أهله مسلمون.
2- تم تجاهل الشريعة الإسلامية بعدم اعتبارها مصدراً وحيداً للتشريع، وهو ما يجعل المادة الثانيةَ من الدستور الجديد التي تنص على أن الإسلام دين الدولة أمراً شكليّاً لا أثر له مطلقاً على أرض الواقع، كما تنص المادة السابعةُ من الدستور على أن الشعب هو مصدر كلِّ سلطةٍ وأن السيادة الوطنية ملك للشعب وحده. بينما تكرس المادة 15 الفصل الشكلي بين السلطات الثلاث، تقليداً زائفاً لدول الغرب.
3- المادة 95 البند الثالث ينص على أن للرئيس أن يقرر إرسالَ وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه. وهذا يعني أن الدستورَ الجديد سيخول للرئيس بوصفه وزيراً للدفاع الوطني والقائد الأعلى للقوات المسلحة إمكانيةَ تسخير وحداتٍ من الجيش الجزائري لخدمة مصالح الدول الاستعمارية بتفويض من ممثلي الشعب.
4- تنص المادة 57 على أنه لا يجوز تأسيس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي. ما يعني تجريم حمل الدعوة الإسلامية، إذ يُمنع العمل السياسي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد إسلامي جلُّ أهله مسلمون.
5- تُقرِّر الوثيقة أيضاً مسألةَ دسترة الحراك الشعبي الأخير، حيث ورد فيها: "لقد كان للحركة الشعبية التي انطلقت يوم 22 فبراير/شباط 2019م أثر خاص على الوضع الوطني، وهو ما استوجب ذكرَها في الديباجة كحدث مميزٍ في تاريخ الشعب الجزائري".
إن هذه التغييرات في الدستور لم تأت حقيقة استجابة للمطالب الشعبية، ولا في سياق بناء وتدعيم ركائز الدولة الوطنية. ولا هي في سياق بناء دولة القانون أو تصحيح أخطاء الماضي! فضلاً عن أنها في واقع الأمر تضمنت أموراً كثيرةً لم يطالب بها أحد! فبوصول عبد المجيد تبون الذي تربى في صفوف جبهة التحرير الوطني إلى سدة الرئاسة في الجزائر بلعبةٍ ذكية عبر الصناديق كمرشح مستقل في انتخابات 12/12/2019م، تكون المؤسسة العسكريةُ الحاكمة قد حسمت الصراع مع الخصوم في الداخل وفي عملية الالتفاف على الحراك الشعبي. وتكون السلطة الفعلية، التي تحاول الآن بشتى الألاعيب تغييرَ جلدها لتتبرأ من المرحلة البوتفليقية، قد عززت موقفها وثبتت نفسها في حكم البلاد وإن في ثوب جديد. وقد تم لها ذلك من خلال خدعة تبني الحراك الشعبي والاستجابة لمطالبه ومحاربة الفساد من خلال حصره في جانبه المالي دون غيره، ثم الإسراع بانتخاب رئيس جديدٍ للبلاد والإيهام بتأسيس "جزائر جديدة" بدستور جديد يُراد الآن تمريره بأي ثمن. وقد مثَّل ذلك تتويجاً لمساعي السلطة الفعلية لاحتواء الأصوات المنادية بالتغيير الشامل عقب انطلاق الاحتجاجات والمسيرات في الشارع التي امتزجت فيها شعارات ومناوراتُ خصوم الزمرة النافذة الذين يقف وراءهم جنرالاتُ فرنسا، مع مطالب الناس عامةً بتحسين أوضاعهم بعد عقود من الفساد والتردي وسوء الرعاية، وخاصة إبان فترة بوتفليقة التي تميزت بالفساد المالي والإداري والانحدار الممنهج على كافة الصعد...
إلا أنه بدا واضحاً أن الرئيس الجديد الذي جيء به لتنفيذ أجندات أصحابِ القرار على الصعيدين الداخلي والخارجي، وليحمل على عاتقه بحسب وعوده الانتخابية مهمةَ إنشاء "جزائر جديدة"، ومن ذلك مسؤولية التصدي لمعضلات البلاد التي من أبرزها "فصل المال عن السياسة" والقضاء على الفساد بجميع أشكاله، بدا واضحاً أنه لم تسعفه كفاءتُه المهنية في دواليب الإدارة لعقود في إنجاز المهمة التي كُلف بها، كما لم يسعفه تنصلُه مرحلياً من الرموز السابقة من أدوات السلطة التقليدية الممقوتة شعبياً. ولكن ليس هذا سوى في الظاهر وفي الخطاب فقط، تجنباً للنقمة وسخط الجماهير، بينما الواقع على الأرض عكس ذلك تماماً! ففي سياق ما سمي "الحملة الانتخابية" للتحسيس بمزايا دستور تبون المعروض للاستفتاء، نجد أن الأحزاب السياسية نفسها يجري الآن تدويرها وإعدادها لمهام أقذر مستقبلاً، إلى جانب المنظمات المجتمعية المطبلة والتابعة للسلطة. وهي "الأجهزة" التي كانت تُستخدم في تمرير البرامج والمخططات الخبيثة وكل ما هو مطلوب من أعلى الهرم على الشعب، إذ شكَّلت على مدى عقود الوسط السياسي القذر ولكنه الملائم لأصحاب تلك المرحلة من خلال أساليب وألاعيب دنيئة عنوانها الانبطاح والانتفاع مقابل الولاء والتبعية والتدليس على الشعب. ومن اللافت أنه يجرى الآن ضمن هذه اللعبة الجديدة الاعتمادُ في هذه المرحلة على المنظمات والجمعيات المدنية بدل الأحزاب السياسية بشكل بارز، أي على ما يسمى المجتمع المدني وأصنافٍ أخرى بديلة ومبتكرةٍ من الزبانية والمنتفعين والأزلام، بمؤازرة نقابة العمال ومنظمة الفلاحين والكشافة الإسلامية والزوايا الصوفية وسائر التكتلات المجهرية المتزلفة التي تقبض من الدولة.
ففي هذا السياق صدرت التعليمات مؤخراً للولاة بفتح الباب لإنشاء 6000 جمعية جديدة يتم اعتمادها على وجه السرعة بغرض توفير السند والدعم لمشاريع السلطة في قابل الأيام وبخاصة في المواعيد الانتخابية، أي لغرض تعويض تراجع دور أحزابِ السلطة أو مؤازرتها في تأطير الناس وشراء مواقفهم وأصواتهم، في انتظار صناعة سماسرة جدد وهياكل مستحدثة للأغراض نفسها مستقبلاً. علماً أن هذه الجمعيات بمختلف أشكالها واهتماماتها حظيت من الجهات الرسمية بكل الدعم خصوصاً المادي المباشر من الدولة منذ تأسيسها واعتمادها عبر الإدارةِ في كل المحافظات بغرض تفعيل أدوارها في المجتمع. ومن جهة أخرى فإن السلطةَ عمدت إلى الترويج لضرورة الاهتمام مستقبلاً بما أسمته "مناطق الظل"، وهو مصطلح مستحدث مؤخراً. والقصد من ذلك هو شراء الناس في هذه المناطق وامتصاص غضبهم بل كسب تأييدهم لكسر شوكة الثائرين، واستخدامهم في إخماد الاحتجاجات بتوظيفهم مستقبلاً ضد الخصوم السياسيين في صراعات المحطات المقبلة. وهي تلك المناطق الريفية أو النائية التي يقل فيها الوعيُ السياسي ويسهل فيها تمرير ألاعيب السلطة، بخلاف المدن الكبرى الرئيسية التي تحتضن القدرَ الأوفرَ من المعارضة والاستياء والرفض وبالتالي العددَ الأكبر من الفاعلين والناشطين في المظاهرات والاحتجاجات على ما تفعله السلطة. فهل ستمنع تدابيرُ السلطة هذه عودةَ الحراك الشعبي إلى الشارع الجزائري مجدداً؟
رأيك في الموضوع