يوم الأربعاء 30/09/2020 جاء وزير الدّفاع الأمريكي مارك إسبر إلى تونس، ليوقع اتفاقية مع وزير الدفاع التونسي إبراهيم البرتاجي. ووصف الاتفاق بأنّه خارطة طريق للتعاون العسكري لمدة عشر سنوات، وصرّح مارك إسبر أنّ بلاده مهتمة بتعميق "التعاون من أجل مساعدة تونس على حماية موانئها وحدودها"، موضحا أن الهدف هو مواجهة "المتطرفين.. ومنافسينا الاستراتيجيين الصين وروسيا.. بسلوكهما السلبي".
أمّا وزير الدفاع التونسي إبراهيم البرتاجي فرحب بالاتفاقية مؤكدا "أهمية الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية في مجال أمن الحدود ومساهمتها في تركيز منظومة المراقبة الإلكترونية".
إنّ الناظر في هاته الاتفاقية ليرى:
- ما تم التوقيع عليه ليس اتّفاقيّة عاديّة على التشارك في التدريبات أو المناورات أو شراء أسلحة، إنّما هي "خارطة طريق"، يعني مشروع عمل وسياسات، ومعلوم أنّ السياسات يرسمها الطّرف القويّ، وإذا علمنا أنّ خارطة الطّريق هذه تدوم لمدّة 10 سنوات، تبيّن أنّ الأمر يتجاوز الاتّفاقيات التقليديّة، فأمريكا ترسم مشروعا ضخما يحتاج إتمامه إلى 10 سنوات كاملة، فما هو هذا المشروع؟ ولم التكتّم عليه؟ وماذا تريد أمريكا من المنطقة؟
- من ثنايا التصريحات علمنا أنّ خارطة الطّريق تتعلّق بأمور ثلاثة وهي: مراقبة الحدود وحماية الموانئ، ومحاربة الفكر المتطرّف، ومواجهة روسيا والصّين اللتين زعمت أمريكا أنّهما ترهبان أصدقاءها. والنّاظر في هاته الأمور يرى أنّها أمور سياديّة بامتياز، وتدخّل أمريكا فيها هو انتقاص من سيادة تونس بل هو الوصاية المباشرة.
- بالنّسبة إلى مراقبة الحدود والموانئ: فلا معنى لخارطة طريق إلا رسم سياسات طويلة الأمد بما يعني أنّ العشر سنوات القادمة ستكون أمريكا مشرفة فيها بشكل مباشر على الحدود التونسيّة البريّة والبحريّة، وإذا علمنا أنّ أمريكا فرضت منذ 2015 على تونس أن تكون حليفا لحلف شمال الأطلسي وفرضت عليها اتّفاقيّات مراقبة الحدود وبخاصّة الحدود الشرقيّة مع ليبيا، فإنّنا نؤكّد أنّ أمريكا تريد أن توجد لنفسها موطئ قدم في شمال أفريقيا، ولقد استغلّت ضعف الدّولة وضعف بريطانيا المهيمنة على الوسط السياسيّ في تونس، فدخلت على الخطّ بذريعة المعاونة على محاربة (الإرهاب). وفرضت مساعدات هزيلة لكنّها كانت كفيلة بأن تمكّنها من التدخّل الذي وصل إلى حدّ رسم السياسات والإشراف عليها فيما يشبه الوصاية.
وبالنّظر إلى سياق الأحداث في المنطقة وبخاصّة في ليبيا نرى أنّ أمريكا بعد أن دفعت بعميليها حفتر وأردوغان إلى أتون الأحداث حتّى صارت ليبيا بين فكّي كمّاشة أمريكا وصارت الأحداث تتجه بشكل متسارع إلى فرض الوجود الأمريكي العسكري خاصّة، كانت الاتّفاقيّة (خارطة الطّريق) مع كلّ من تونس والمغرب عملا مكمّلا لخطّة أمريكا في المنطقة التي تقضي أوّلا بالوجود العسكري، ويبدو أنّ رفض دول شمال أفريقيا في السابق وجود قاعدة عسكريّة في إحداها، دفع بأمريكا إلى أسلوب ثان وهو أن تحوّل تونس إلى قاعدة عمليّات تستخدم فيها الجيش التونسيّ في خدمة أجندتها في المنطقة والعالم. ولذلك مؤشّرات عديدة لعلّ أهمّها ما اعترف به رئيس تونس الهالك الباجي قايد السبسي حين اعترف أنّه سمح للقوّات الأمريكيّة باستخدام قاعدة سيدي أحمد العسكريّة في تطيير طيّارات دون طيّار حلّقت في الأجواء الليبيّة وإلى الحدود مع الجزائر بغاية جمع المعلومات ولعمليّات صغيرة محدودة. ثمّ ما فضحته إحدى المجلّات العسكريّة الأمريكيّة التي نشرت خبر موت جنديين من جنود المارينز أثناء مشاركتهم القوّات التونسيّة في معركة في الشّمال الغربي التونسيّ، ما يعني أنّ حكّام المنطقة ولضعفهم خضعوا لأمريكا ومكّنوها من مجال حركة بدأ صغيرا وها هو يتوسّع، ولذلك فإنّ ما حوته هذه الاتّفاقيّة التي قيل إنّها للتعاون والتدريب إنّما هي مشروع أمريكي لتدريب واستخدام جيوش المنطقة وبخاصّة الجيش التونسي في عمليّاتها.
- أمّا بالنّسبة إلى محاربة التطرّف العنيف، فمعلوم أنّ أمريكا صانعة الإرهاب، صار من أساليبها استعمال ورقة الإرهاب للتّدخّل في البلاد، من ذلك فهي لم تفوّت حادثة ممّا يوصف بالإرهاب إلا تدخّلت وجاء أحد مسؤوليها يفرض مساعدات ويؤكّد ضرورة التنسيق مع أمريكا لمحاربة "الإرهاب"، وفي شهر أيار/مايو الماضي جاء قائد أفريكوم الجنرال تاونسند إلى تونس ليفرض على تونس عمليّات مشتركة ضدّ الإرهاب بذريعة أنّ الإرهابيين يتنقّلون في مناطق الصّحراء وأنّ تونس وحدها لا يمكنها التصدّي للظّاهرة فوجب أن تحضر أمريكا بجنودها حتّى "تساعد" في صدّ الإرهابيين... ولمّا ضجّ الرأي العامّ أصدرت قيادة أفريكوم بيانا تنفي فيه نيّتها إقامة قاعدة عسكريّة في تونس. ومن هنا تأتي هاته الاتّفاقيّة كإطار "قانوني" يسهّل عمليّات أفريكوم دون أن تثير الرأي العامّ. خاصّة أنّ توقيع إبراهيم البرتاجي وزير الدّفاع التونسي كان بعلم الرئيس قيس سعيّد وموافقته.
- أمّا بالنّسبة إلى روسيا والصّين فمعلوم أنّ الوجود الصّيني في المنطقة باهت وليس له الأسس المتينة للبقاء إلا بقدر ما يسمح به الأسياد الغربيّون للعملاء، وكلّ متابع للأحداث في العالم ليرى أنّ أمريكا أقحمت روسيا في الشام وليبيا لتسخيرها لخدمتها، ولقد رأى الجميع مساعدة روسيا العسكريّة لحفتر عميل أمريكا وكانت كلّ العمليّات في خدمة السياسة الأمريكيّة. وعليه فليس حديث وزير الحرب الأمريكي عن الخطر الروسي إلا فزّاعة ومبرّر للدّخول إلى المنطقة.
- وإذا نظرنا إلى السياق العالمي للأحداث، وجدنا أنّ أمريكا ومعها الغرب كلّه قد أفزعه الحديث عن الخلافة الذي طبّق الآفاق حيث صارت الخلافة هي البديل الوحيد الممكن ليس في البلاد الإسلامية فحسب بل في كلّ العالم. وبالعودة إلى الأحداث في بلاد المسلمين حيث انطلقت ثورة على عملاء الدول الرأسماليّة وعلى النّظام الغربي، وأنّ هذه الثورة بيّنت أنّ المسلمين أمّة حيّة لا يمكن مسخ هويّتها، لما رأى الغرب بزعامة أمريكا ذلك انقضّوا على بلاد المسلمين التي حدثت فيها الثورات (ومنها تونس) بزعم مساعدتها يريدون إحكام السّيطرة عليها، فكلام أمريكا عن مراقبة الحدود بين تونس وليبيا لا معنى له سوى إحكام الفصل بين الشعوب المسلمة والحيلولة دون وحدتها، وأمريكا ماضية في عقد الاتّفاقات العسكريّة تريد أن تحيط بلاد المسلمين بطوق عسكريّ جنوده من جيوش المسلمين، أمّا القيادة فبيدها وتحت إشرافها المباشر. وكلّ ذلك تحسّبا لقيام الخلافة التي لاحت بشائرها.
- الموقّعون على الاتّفاقيّة خانوا الأمانة، لأنّهم جعلوا تونس بل كلّ شمال أفريقيا تحت وصاية شرّ الأعداء إذ منحوها الذريعة "القانونيّة" للتّدخّل في تونس وليبيا تدخّلا عسكريّا مباشرا.
- ولكنّنا ورغم الاتّفاقيّات ورغم ضعف أشباه الحكّام واستسلامهم الكامل أمام الأعداء، فإنّنا لا نسلّم بأنّ خطّة أمريكا أو غيرها من المستعمرين ستنجح لأنّ في أمّة الإسلام حزب التحرير الذي ما انفكّ يكشف خطط الكفّار المستعمرين ويفضحها، ولأنّ في الأمّة الإسلاميّة رجالاً لا يقبلون الضيم ولا يرضون الذلّ والخنوع، لن يقبلوا أن يسخّرهم أشباه حكّام لخدمة أعداء الإسلام والمسلمين. ولقد استفاقت الأمّة الإسلاميّة ودبّ فيها وعي حتّى لفظت حكّامها وما عادت تثق فيهم أو تنتظر منهم شيئا، فمهما عقدوا من اتّفاقات ومهما صدر منهم من خيانات فإنّهم لا قيمة لهم ولا تأثير. وعمّا قريب ستقلعهم الأمّة قلعا وتكنسهم كنسا.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
عضو مجلس الولاية في تونس
رأيك في الموضوع