يواجه اقتصاد السودان مشاكل عديدة ومعقدة، أبرزها مشكلة تدهور قيمة العملة المحلية، بسبب عدم استقرار سعر الصرف وتعدده، وهي المشكلة الاقتصادية الحقيقية في الوقت الراهن، لأن سعر الصرف يعتبر متغيراً اقتصاديا شديد الحساسية للمؤثرات الداخلية والخارجية، وخاصة في مجال التجارة الخارجية والتنمية الداخلية، حيث إن سعر الصرف يعتبر حلقة الربط بين الاقتصاديات الدولية، ومقياساً لحجم المعاملات بين الدول، فتأثيراته الواسعة على الاقتصاد الكلي من خلال علاقته المباشرة وغير المباشرة، بالمؤشرات الاقتصادية الكلية، المتمثلة في معدل التضخم، ومعدل النمو، وميزان المدفوعات وغيرها.
تعد السنة الماضية أسوأ فترة تمر بها العملة المحلية في السودان أمام العملات الأجنبية، حيث بدأت بما يعادل 67 جنيها للدولار في السوق الموازي، حتى وصل سعره 285 جنيهاً، ثم تأرجح وبدأ في الانهيار مرة أخرى، فتسبب هذا التدني المريع في شلل شبه كامل لاقتصاد البلاد، فتبعته نتائج كارثية أبرزها:
1- الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار وزيادة التضخم بصورة غير مسبوقة، حيث أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بالسودان، بتسارع معدل التضخم السنوي في البلاد بنسبة 23.05% في آب/أغسطس إلى 166.83% من 143.78% في تموز/يوليو. فتحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، وأصبحت الأسعار متزايدة بشكل يومي وبصورة تعقد حياتهم اليومية.
2- زيادة تكلفة الإنتاج فأغلقت كثير من المحال التجارية أبوابها بسبب التغيرات المستمرة والمرتفعة بشكل متكرر وعدم الاستقرار في الأسعار.
أبرز الأسباب التي أدت إلى انهيار العملة المحلية:
أولا: فشل السياسات النقدية والمالية المتبعة من الحكومة الانتقالية وهي لا تختلف عن سابقتها في ظل النظام البائد، وعلى سبيل المثال: أصدر بنك السودان المركزي سياسات نقدية في بداية العام 2020م لتحقيق الاستقرار النقدي والمالي من خلال المحاور الآتية:
1- استقرار سعر الصرف.
2- استقرار المستوى العام للأسعار والحد من التضخم.
3- إعطاء مرونة للمصدرين في استرداد واستخدام حصائل الصادر.
4- استعادة وتطوير علاقات المراسلين المصرفية الخارجية للإسهام في جذب مدخرات وتحويلات السودانيين العاملين بالخارج.
5- توجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية في المجال الزراعي والحيواني والصناعي وتعزيز دور القطاع الخاص.
كانت هذه أهداف سياسات بنك السودان المركزي للعام 2020م. ولكن للأسف تطبيقها أدى إلى نتائج كارثية على اقتصاد البلاد، حيث تدحرج الوضع إلى الهاوية، فأصبح سعر الصرف يزداد يوما بعد يوم إلى أن وصل إلى أرقام قياسية من 67 جنيها للدولار إلى 250 جنيها. فهذه دلالة واضحة على فشل السياسات النقدية والمالية التي اتخذتها الحكومة الانتقالية، فمثل هذه السياسات لا تورثنا إلا الدمار والخراب، والانهيار الكامل في سعر الصرف، والتضخم الرهيب الذي وصل إليه الحال وهو 166%. فلم يتحقق أي من المحاور سابقة الذكر.
ثانياً: اختلال الميزان التجاري واستمرار تزايد العجز فيه حتى وصل إلى أكثر من خمسة مليارات دولار، فهذا من الأسباب التي أدت إلى تدهور قيمة العملة، حيث إن العملات الأجنبية التي تحتاجها أي دولة في ظل الاقتصاديات الرأسمالية هي الدولار وغيرها من العملات الأجنبية، فمن البديهي أن تسعى الدولة لإيجادها عن طريق تنمية الصادرات، وتشجيعها وتبني سياسات تحفزها وتتقدم بها لسد الفجوة من النقد الأجنبي، ولكن الذي يحصل في السودان اليوم وفي ظل الحكومة الانتقالية هو عكس ذلك بل نرى تخبطا واضحاً، واتباع سياسات تعمل على تدمير الصادرات، على سبيل المثال: سياسات بنك السودان المركزي تجاه الصادر والوارد أيضا متقلبة وغير ثابتة، فخلال العام تتقلب السياسات إلغاءً وتعديلا بصورة مربكة لكل التعاملات الخارجية والداخلية المتعاقد عليها أو المنفذة، ولم تصل إلى وجهتها.
خلال الربع الأول أصدر بنك السودان المنشور رقم 4/2020م بتاريخ 1/1/2020م والخاص بإجراءات الصادر ولم تحدد السلع التي تشملها طريقة الدفع، ثم عُدل بموجب تعميم إلى المصارف بتاريخ 20 كانون الثاني/يناير 2020م، باستثناء السلع المصنعة ذات القيمة المضافة من قرار التصدير بطريقة الدفع المقدم، ولم تحدد طريقة الدفع لهذه السلع ذات القيمة المضافة، ثم جاء تعديل آخر بالمنشور رقم 13/2020م والصادر بتاريخ 8/4/2020م في الخصوص نفسه، بإلغاء الدفع المقدم لسلع الصادر والسداد بكل طرق الدفع.
إن مثل هذه الربكة في ضوابط إجراءات الصادر والتعديل المتتالي في فترة وجيزة وعدم وجود نصوص صريحة بالمنشورات، كانت وما زالت السبب في عدم استرداد حصائل الصادر، بالإضافة إلى أن قرارات وزير الصناعة بوقف الصادر لقائمة من السلع أمر ضار بالاقتصاد أيضا.
لذلك، فهنالك مليارات مهدرة من النقد الأجنبي، بسبب التخبط واتباع سياسات تدميرية أدت إلى هذا الوضع السيئ.
ينطبق على صادر الذهب ما يحدث لبقية الصادرات، حيث عدم استقرار سياسات صادر الذهب، بدءاً بالمنشور رقم 5/2020م الصادر بتاريخ 1/1/2020م، ثم الاستعاضة عنه بالمنشور رقم 8/2020م بتاريخ 6/2/2020م، ثم المنشور رقم 9/2020م، وكلها خلال فترة وجيزة من العام 2020م.
ثالثاً: إن زيادة الكتلة النقدية بالطباعة أو الضخ، يزيد من العرض وبالتالي يؤدي إلى إخلال في التوازن الكلي (توازن العرض مع الطلب) وينجم عن ذلك تراجع في قيمة العملة المحلية وهو أحد السياسات الفاشلة التي عمقها النظام السابق بخضوعه لإملاءات صندوق النقد الدولي خاصة في الاستمرار بتخفيض قيمة العملة بزيادة الكتلة النقدية دون غطاء من الذهب أو احتياط من النقد الأجنبي؛ والذي جعل التضخم يتخطى حاجز 60%، أما الحكومة الحالية فتسير على الشاكلة نفسها وهذه من الأسباب الرئيسية في انهيار قيمة العملة المحلية.
أما أبرز الحلول المطروحة من الحكومة الانتقالية وحاضنتها قوى الحرية والتغيير فهي:
1- القروض: الاقتراض من الدول الأجنبية والمؤسسات الاستعمارية مثل البنك الدولي وغيره لا تمثل حلا لمشكلة الاقتصاد بشكل عام واستقرار سعر الصرف للعملة المحلية بشكل خاص، لسببين:
أولهما: أنها قروض ربوية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولن تعود علينا بخير، والآن ديون السودان فاقت 60 مليار دولار بسبب هذه القروض الربوية.
ثانيهما: إن هذه الدول والصناديق ليست جمعيات خيرية تعطي دون مقابل، بل لا بد من تنفيذ سياساتها الاستعمارية الطامعة في ثرواتنا، وما نسمعه من رفع الدعم عن السلع الأساسية؛ وقود وقمح وغاز الطبخ وغيرها ما هي إلا متطلبات أساسية عند صندوق النقد الدولي، وهذه السياسات هي سياسات تدميرية لاقتصاديات الدول النامية، ولا يطبقها إلا عميل يعمل لتسخير قدرات شعبه لخدمة أسياده المستعمرين.
2- المنح الخارجية: لقد اعتمدت الحكومة الانتقالية على هذه المنح اعتمادا كبيرا ولكنها لم تجن إلا الوعود الكاذبة من هذه الدول الاستعمارية الطامعة، التي تعد فتكون النتيجة ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾.
3- الاستثمارات الأجنبية: فهي نهب لثرواتنا وإعطاؤها للمستعمرين بلا ثمن، ليسمنوا بها ونجوع نحن، ولا يبيع خيرات بلده وشعبه إلا عميل خانع ذليل لسياسات الدول الاستعمارية.
3- تغيير العملة: أما تغيير العملة الذي تطرحه اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير فهو حجة باطلة ويزيد الطين بلة لأن طباعة العملة الجديدة تحتاج إلى أموال إضافية تزيد من العبء، وخطة لوقوع الناس في شرك حجز نقودهم في الجهاز المصرفي وهذه جريمة أخرى تضاف إلى باقي الجرائم.
وفي كلتا الحالتين فإن تغيير العملة لا يجلب دولارا واحداً ولا يزيد إنتاجا ولا يحل مشكلة اقتصادية.
فالحكومة الانتقالية الآن بكل خبرائها حملة الجوازات الأجنبية الذين تربوا في أحضان العدو، يفكرون بعقلية مدارسه وجامعاته، فلا ينظرون ولا يجتهدون إلا في تطبيق سياساته ويسهرون لتنفيذ أجندته، وتمكينه من ثرواتنا بلا ثمن، بل يريدون أن يأخذوا شرعية شعبية على روشتات صندوق النقد التدميرية، بما يسمى بالمؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في الفترة من 26- 28/09/2020 حيث تم طرح الرؤى نفسها؛ لتعود ساقية الفشل في الدوران.
ولكن نقول لهؤلاء وأولئك، إن أهل السودان أدركوا عمالتكم وخيانتكم، وسيقلبون الطاولة عليكم، بالالتفاف حول الثلة الواعية المبصرة لهدفها الهاضمة لفكرتها، المدركة لطريقتها، ليعملوا معاً لاستئناف الحياة الإسلامية، بإعلانها خلافة راشدة على منهاج النبوة، فتوحد الأمة الإسلامية جمعاء وتخرج الناس من الظلمات إلى النور.
عضو مجلس حزب التحرير/ ولاية السودان
رأيك في الموضوع