إبان حقبة الاتحاد السوفياتي كان كل شيء يتعلق بروسيا يوصف بالعظمة من كاتب روسي عظيم، إلى شعب روسي عظيم. فلم يكن الاتحاد السوفياتي إلا باخرة ضخمة يقودها ربان روسيا العظيمة! ولما أصبح الاتحاد ومبدؤه الاشتراكي عقبة أمام زعماء روسيا في تحقيق ما تصبو إليه روسيا من قوة ونفوذ، لم يتوان زعماء روسيا عن تفكيك الاتحاد وخلع لباس الاشتراكية الذي ما لبسوه إلا طمعا في مد نفوذهم على أكبر قدر. فتخلت روسيا عن حلف وارسو الذي لم يعد فاعلا قويا أمام الناتو، وتخلت عن الاتحاد الذي صار عبئا ثقيلا على كاهلها، وعن المبدأ الاشتراكي الذي عجز أن يحقق لها نفوذا حقيقيا في العالم. وتبنى غورباتشوف فكرة إعادة البناء (بريسترويكا) والتي أدت إلى خروج روسيا من جلد الأفعى وابتعادها عن مسرح الموقف الدولي والنظام العالمي خلال أقل من عقد على ظهور فكرة البريسترويكا. وفي الوقت الذي عبر ساسة أمريكا عن سعادتهم لخروج روسيا من المسرح الدولي، أبدى هنري كيسنجر مخاوفه من عودة روسيا بشكل أقوى، كما أبدى بريجنسكي قلقه من عدم قيام أمريكا بتبني سياسات كفيلة بإبقاء روسيا خارج اللعبة الدولية كما جاء في كتابه: الخيار بين الهيمنة والقيادة.
والحقيقة أن روسيا لم تتخل يوما عن طموحاتها في التأثير في الموقف الدولي، ولكنها لم تتمكن في أي حقبة من التاريخ أن يكون لها تأثير في العلاقات الدولية إلا في فترة الاتحاد السوفياتي والتي تمكنت فيها من الجلوس جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة لبحث أشد القضايا سخونة في العالم مثل قضية توحيد ألمانيا، وقضية أوروبا، والصين، والترسانة النووية العالمية. ولكنها بعد أن خلعت بنفسها الاتحاد السوفياتي خسرت الأداة الأقوى في التأثير. إلا أنها لم تفقد الرغبة في التأثير ولم تتوان عن العمل لإعادة مقدرتها.
وساعد روسيا في توجهها للعودة إلى المسرح الدولي قوة فاعلة، هي ترسانتها النووية الضخمة التي حافظت عليها وعملت على تطويرها وتحديثها. فقد أعلن بوتين في أيلول 2015 عن عزم بلاده على تطوير سلاح ردع نووي حديث يوازي قوة الناتو والولايات المتحدة. ولا شك أن امتلاك سلاح نووي متطور يحتوي أكثر من 7300 رأس نووي محمولة على طوربيدات وصواريخ متوسطة المدى وعابرة للقارات ومخزنة، وبشكل يفوق ما تملكه جيوش الناتو وأمريكا التي تمتلك أقل من 6000 رأس نووي، يعد مصدر قوة لروسيا تجعلها تفكر جديا في اعتلاء مكانة مرموقة في العلاقات الدولية.
ثم إن الفترة التي شهدت ارتفاعا حادا في أسعار النفط مكنت روسيا من جمع ثروة نقدية هائلة من الدولارات وصلت إلى أكثر من 600 مليار دولار عام 2008 ما جعل حكام روسيا يفكرون أكثر جدية في العودة إلى المسرح الدولي، وما إصرار روسيا على احتلال جزيرة القرم في أوكرانيا إلا تجربة بسيطة لقياس حرارة المجتمع الدولي ومقدرة روسيا على العمل وإن كانت هذه الخطوة لا تعد عملا دوليا بقدر ما هو إقليمي ضمن منطقة نفوذ روسيا. ولكن ثروة روسيا المالية سواء دخلها القومي أو رصيدها من الدولار قد بدأت تتراجع إلى أن وصل احتياطها من الدولار إلى ما دون 350 مليار في شهر شباط 2015. ولعل هبوط سعر النفط خلال الأشهر الماضية أدى إلى هبوط حاد في مخزون الدولار الروسي. والذي كان من المتوقع أن يساعد روسيا في تحقيق طموحاتها. كما أن رصيد روسيا الشهري من الذهب والذي كان قد ارتفع منذ سقوط الاتحاد السوفياتي من 3 مليار دولار إلى 54 ملياراً في شهر أيلول 2012 قد بدأ يتراجع إلى أن وصل 47 مليار دولار في شهر شباط 2015.
إن أهم قوى تعتمد عليها الدول في فرض مكانتها على المستوى الدولي هي القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والفكرية. أما القوة العسكرية فإن روسيا تملك منها الكثير. أما القوة الاقتصادية فإن روسيا لا تزال تعتمد على مخزونها من النفط والغاز الذي يصل إلى أكثر من 50% من دخلها القومي. ولم تتمكن روسيا من بناء اقتصاد متطور يعتمد على الإنتاج والتصنيع والخدمات المالية، ما يجعلها عرضة لهزات سريعة. وقد أظهر انخفاض أسعار النفط الحاد مدى التأثير على مكانة روسيا الاقتصادية. أما القوة السياسية فروسيا لم تطور سياسة خارجية متطورة، وليس لها عملاء أقوياء في العالم يتبعونها كما لأمريكا وبريطانيا وفرنسا، حتى إن زعماء دول المنظومة السوفياتية السابقة وحلف وارسو في أغلبهم تحولت ولاءاتهم إلى أمريكا أو أوروبا. فروسيا ليست بارعة في تنظيم العملاء السياسيين الذين يخدمونها في أعمالها السياسية. وهي لا تزال في هذا المجال تقدم خدمات لأمريكا أو أوروبا حسب مصلحتها وحاجتها. أما القوة الفكرية فقد تخلت روسيا عن الاشتراكية التي كانت تمنحها تمايزا فكريا عن الغرب الرأسمالي.
ومن هنا فإن روسيا حقيقة لا تملك من مقومات الدول التي لها المقدرة في التأثير على المستوى الدولي إلا القوة العسكرية. وهذا لا يكفي لعودتها لتكون فاعلة في الموقف الدولي مثل أمريكا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي.
رأيك في الموضوع