لقد وصلنا في الحلقة السابقة إلى النقطة الخامسة من عوامل التفكك التي تنخر في أوصال أمريكا وهي آفة الطبقية المتغلغلة في الوسط الأمريكي، والتحكمات الاقتصادية، وخاصة من طبقة الواحد بالمئة المتحكمة في الثروات والأسواق، والمؤسسات المالية الكبرى.
إن هذه الطبقة المتحكمة بالاقتصاد الأمريكي، وبالتالي في الحياة السياسية، وفي تسيير الأمور داخل أمريكا قد جلبت المتاعب الكثيرة للطبقة الكادحة في أمريكا، منذ تأسست أمريكا، وما زال الشعب الأمريكي يعاني حتى اليوم من تحكماتها بالأسواق؛ سواء أكانت أسواق العمالة، أم السلع والخدمات الضرورية، أم غير ذلك من أسواق. وفوق هذا التحكم والنهب للثروات، ومص لدماء الطبقة الفقيرة فإن هذه الطبقة المتحكمة تُحمل عامة الشعب أعباء ما يحصل من أزمات اقتصادية بين الفينة والأخرى؛ كما جرى في الأزمة الأخيرة سنة 2008؛ حيث قامت الحكومة الفدرالية بتحميل تبعات الكثير من مظاهر هذه الأزمة لدافعي الضرائب؛ أي للطبقة الكادحة والفقيرة. ودفعت أموال الضرائب لطبقة الواحد بالمئة لإنقاذ الشركات العملاقة من الانهيار. فازداد بذلك غضب الشارع الأمريكي على هذه الطبقة وتحكماتها الاقتصادية؛ مما دفع الملايين من الأمريكيين للسير في شوارع أمريكا سنة 2011؛ تطالب بإلغاء رموز المؤسسات الاقتصادية للمال والأعمال في وول ستريت، وتطالب بإلغاء تحكمات الطبقة الغنية بالاقتصاد الأمريكي. وظهرت هذه الأصوات مرة أخرى في هذا العام 2020 بعد حادثة ولاية مينيابوليس؛ وكانت تطالب بتحقيق العدالة الاقتصادية، إلى جانب مطالبتها بإلغاء قوانين التفرقة العنصرية. والمشاهَد لدى المتابِع هو أن هذه الأفكار تتسع يوما بعد يوم في أمريكا، وتزداد نقمة الفقراء على الأغنياء، ولا يستبعد أن تولد انفجارا في أية لحظة، خاصةً في ظل تردي الوضع الاقتصادي بسبب جائحة كورونا.
6- القوانين التي تربط ولايات الاتحاد، والصلاحيات الواسعة المعطاة لحكام الولايات.
وقد ظهر هذا الأمر واضحا في سياسات التعامل مع جائحة كورونا، حيث إن الصلاحيات الإدارية والسياسية لدى حكام الولايات جعلت حكام بعض الولايات يتمردون على قرارات الرئيس ترامب، في أكثر من مرة؛ كما جرى في ظل جائحة كورونا وكما جرى كذلك بسبب الاضطرابات ودعوة ترامب لإنزال الجيش النظامي إلى الولايات. فقد رفض عمدة نيويورك آندرو كوم الالتزام بأي أمر يصدره الرئيس بإنهاء إجراءات العزل العام في الولاية بطريقة غير آمنة. ورفض كذلك حاكم ولاية فرجينيا رالف نورثام طلبا من وزير الدفاع مارك إسبر، بإرسال ما بين 3000-5000 عنصر من الحرس الوطني في الولاية إلى العاصمة واشنطن.
إن مثل هذه الأمور المتكررة لتنذر بتمرد أكبر في حال حصول هزات قوية داخل الاتحاد؛ وخاصة أن هناك دعوات جدية بالفعل لانفصال بعض الولايات الكبيرة عن الحكومة الفيدرالية مثل ولاية كاليفورنيا كما ذكرنا في نقطة سابقة.
7- التركيبة الديموغرافية المتعددة للسكان، وتعدد الديانات والأعراق داخل أمريكا.
وهذه القضية المتفجرة، بين فترات متعددة في تاريخ الولايات المتحدة لتنذر بالفعل بحصول تمردات أوسع، في حال تردي الأوضاع الاقتصادية أو السياسية داخل أمريكا. ولا يستبعد أن تزداد أعداد الولايات العرقية التي تطالب بالانفصال؛ كما هو حال ولاية كاليفورنيا ذات العرق والأصول الإسبانية، حيث طالبت أكثر من مرة بالانفصال عن الاتحاد لأسباب اقتصادية، وأخرى تتعلق بالعادات والتقاليد والأفكار داخلها. وأضيف إلى أسباب دعوات الانفصال لهذه الولاية السياسات الحمقاء التي يقوم بها ترامب؛ وخاصة تلك التي تُبرز الناحية العرقية لدى الولايات. ويضاف إلى ذلك أيضا التنافس الكبير في ظل أجواء الدعاية الانتخابية لسنة 2020؛ خاصة أن أغلب سكان هذه الولاية يرفضون ترامب، بالإضافة إلى تأييدهم للحزب الديمقراطي.
هذه أبرز الأمور التي تهدد الولايات المتحدة بالتفكك والتشرذم، وقد نخرت بالفعل هذه العوامل المجتمع في أمريكا؛ حتى وصلت إلى حد الظهور على السطح، والمناداة بإلغاء رموز المال والأعمال في الناحية الاقتصادية، وبتحقيق العدالة الاقتصادية، والعدالة والمساواة في قوانين الولايات المتحدة؛ خاصة ضد السود والعرقيات الأخرى الوافدة. وظهرت على السطح أيضا دعوات انفصال ولايات بأكملها عن الاتحاد؛ كما هو حاصل في ولايات (ألاسكا، كاليفورنيا، تكساس، كارولاينا الجنوبية، فيرمونت...)؛ وفي دراسة أجرتها وكالة أنباء رويترز سنة 2017 فإن ربع الأمريكيين يوافقون على إمكانية الانفصال، كما أظهر استطلاع رأي سابق أجرته وكالة أنباء رويترز، وجاء في هذا الاستطلاع: أن 23.9% من الأمريكيين يُؤيدون أو يميلون لتأييد انفصال ولاياتهم عن الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الناظر في واقع المجتمع في أمريكا من خلال ضعف الترابط المبدئي بين أفراد المجتمع، وضعف الترابط بين الولايات من خلال القوانين العامة، ومن خلال التردي الاقتصادي، وتعدد الأعراق وغلبة النظرة العرقية على النظرة المبدئية، ومن خلال ما تثيره سياسات الحزبين الكبيرين وسياسات الرئيس الحالي من تفسخ وتعميق الشرخ بين الأمريكيين، ومن خلال غير ذلك من أمراض مجتمعية وسياسية ومبدئية مستعصية داخل المجتمع في أمريكا؛ ليدرك مدى عمق الشرخ في هذا الاتحاد، وازدياده في كل يوم تشرق فيه الشمس، ويدرك أن النتيجة الحتمية هي انهدام هذا المجتمع، وانحلال خيط العقد الذي يربط حباته الخمسين.
وقد ظهرت أقوال كثيرة وكتابات متعددة في هذا المجال لسياسيين ومفكرين واقتصاديين تنذر بقرب تفكك هذا الاتحاد، وتبعثر حبات عقده كما جرى مع الاتحاد السوفيتي؛ ومن هذه الأقوال ما ذكره المحلل السياسي الأمريكي كيفين زيسي في مقال بعنوان: "الإمبراطورية الأمريكية تحتضر": (يجب أن نحاول جعل انهيارها، إذا ما حصل، يسبب أقل الأضرار الممكنة لبقية العالم، وكذلك لشعب الولايات المتحدة).
وفي عام 2003 أصدر الكاتب الأمريكي إيمانويل تود كتاباً بعنوان "ما بعد الإمبراطورية" تحدث فيه عن سقوط القوة الإمبريالية الأمريكية، وفقدانها خاصية كونها أهم المتحكمين بالسياسات الدولية.
وكتب الكاتب والمخرج مايكل مور، في تموز/يوليو 2016 مقالا جاء فيه: (أن فوز ترامب جاء مخيبا لآمال كل الذين وقفوا مع حقوق الإنسان، وضد التمييز والعنصرية... وكانت ولاية كاليفورنيا، وهي الأكثر عددا والأكثر تمويلا للخزانة الأمريكية، قد شكلت لجنة (نعم كاليفورنيا) في آب عام 2015 لإجراء استفتاء في الولاية بحلول 2019 من شأنه أن يبدأ في الطريق الطويل الذي قد يؤدي إلى الانفصال القانوني عن الولايات المتحدة..).
يتبع في الحلقة القادمة...
رأيك في الموضوع