عرفت مالي يوم 18/08/2020 انقلابا عسكريا قاده مجموعة من الضباط اعتقلوا رئيس البلاد أبو بكر كيتا ورئيس وزرائه بوبو سيسي وعددا من المسؤولين والقادة العسكريين من أبرزهم قائد أركان الجيش المالي، وأعلن العسكريون عن تشكيل "اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب" وتعهدوا بإنجاز انتقال سياسي مدني في آجال معقولة، وقد لقي الانقلاب داخليا ترحيبا وقبولا من سكان مالي الذين كانوا في عصيان مطالبين بإسقاط رئيس البلاد كيتا بدعوة من حراك 5 يونيو الذي رحب بدوره بالانقلاب، وقد أعلن قائد الحراك وملهب حماسة وحمية أهل مالي الإمام محمود ديكو اعتزاله السياسة بعد لقائه العسكريين المنقلبين. كما أن الرئيس كيتا أعلن في بث متلفز من مكان اعتقاله استقالته من كل مناصبه حقنا للدماء واستجابة للعسكريين الذين رأوا المصلحة في تنحيته.
فما حقيقة هذا الانقلاب وما خلفياته؟
1- للجواب على هذا السؤال ينبغي العودة إلى 22/03/2012 حيث انطلق عدد من الضباط الصغار من قاعدة عسكرية بمدينة كاتي وهي المدينة ذاتها التي خرج منها انقلابيو 2020، وأزاحو حينها الرئيس أحمد تومانو توري وقد كان واضحا أن أمريكا هي من وراء الانقلاب حيث إن قائد الانقلاب أحمدو حيا سانوجو قد تلقى تدريبا عسكريا أمريكيا وسافر عدة مرات لأمريكا في مهمات خاصة. فأمريكا ولأجل تثبيت نفوذها في مالي عقدت اتفاقيات معها لتدريب القوات المالية على مكافحة الإرهاب والتمرن على التكتيكات المتعلقة بمحاربة الجماعات المتمردة.
2- وقد نتج عن هذا الانقلاب فراغ أمني في شمال مالي استغله المتمردون والحركات المسلحة والجهادية للسيطرة على شمال البلاد فاستغلت فرنسا هذا الوضع للتدخل عسكريا في مالي لإنقاذ نفوذها الذي ضربه الانقلاب الأمريكي في مقتل والذي إن لم تسترجعه سيفقدها نفوذها تدريجيا بأفريقيا. وعليه تدخلت عسكريا في 11/01/2013 تحت ذريعة محاربة (الإرهاب) وغايتها إعادة عملائها لحكم مالي، وقد نجحت في ذلك حيث وصل رجلها أبو بكر كيتا بانتخابات للحكم في 19/09/2013 وهو الذي درس بباريس وبعد عودته لمالي عين مستشارا للصندوق الأوروبي للتنمية ومديرا ممثلا لأرض رجالات فرنسا وهي منظمة غير حكومية فرنسية، وقد كان من أركان نظام عمر كوناري الموالي لفرنسا فكان ناطقا باسم رئاسة الجمهورية فسفيرا فوزيرا للخارجية ثم وزيرا أولا. وما لبث أن استقر في منصبه حتى استدعى قائد الانقلاب أحمدو للتحقيق معه في شأن قتل جنود واختفاء ضابط كما أقال رئيس أركان الجيش في ظل السلطة الانتقالية الجنرال إبراهيم داهيرو دمبلي وأقال مدير قوات الشرطة الوطنية ورئيس الأكاديمية العسكرية في مالي ويعد كلاهما من المقربين من سانوجو. كما أقال رئيس أمن الدولة وهو من كبار أعضاء المجلس العسكري، وألغى أيضا لجنة لإصلاح الجيش كان سانوجو يرأسها. وقد كان من مباركي التدخل الفرنسي ومؤيدي الرئيس كيتا الإمام محمد ديكو رئيس المجلس الإسلامي الأعلى حينها والرجل النافذ والقائد المتبع في الشارع المالي المسلم معتبرا أن "فرنسا تدخلت لمساعدة الشعب المالي بعد أن تخلت عنه الدول الإسلامية". وقد نجحت فرنسا في فرض رجلها بعد طردها للجماعات الجهادية لصالح الطوارق الذين وقعوا اتفاقا مبدئيا مع حكومة مالي في 18 حزيران/يونيو 2013 بواغادوغو ببوركينافاسو عُدّ "اتفاقا تمهيديا للانتخابات الرئاسية ولمفاوضات السلام في مالي".
3- لقد كان اتفاق واغادوغو للسلام مع الطوارق اتفاقا هشا فلم تمض عليه إلا بضعة أشهر حتى هددت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بالعودة لحمل السلاح متهمة الجيش بارتكاب "أعمال عدائية خطيرة تجاه شعب أزواد" وصلت إلى مواجهات مسلحة مع الجيش في 2014، وإنه رغم التوصل لاتفاق سلام شامل في 2015 مع الطوارق إلا أن فرنسا لم يستقر لها الوضع ولهذا جاءت الانتخابات الرئاسية 2018 في جو من مشاعر العداء لفرنسا المتهمة بارتكاب مجازر في حق المسلمين ونهب خيرات مالي واتهام للرئيس كيتا بفشله في تحقيق السلام بالبلاد، فرغم التدخل الفرنسي والأفريقي والأممي ضد الجماعات المسلحة بالشمال فإن أعمال هذه الجماعات لم تتوقف وتمددت للجنوب مع اتهامات للجيش المالي والمليشيات الموالية له بارتكاب جرائم قتل وإبادة في حق السكان، إضافة للرفض الشعبي لتغيير الدستور ليتضمن إقرارا للامركزية تنفيذا لنصوص اتفاق السلام مع الطوارق معتبرين هذا التغيير مدخلا لتقسيم مالي حيث تم إلغاء الاستفتاء عن مشروع الدستور في حزيران/يونيو 2017 بسبب المظاهرات الرافضة له، فدخل كيتا الانتخابات وهو لا يحظى بالشعبية نفسها التي حملته للرئاسة وقد ابتعد عنه حليفه الإمام محمد ديكو، وإنه وإن فاز كيتا بولاية ثانية لخمس سنوات أمام صوميلا سيسي فإن هذا الأخير رفض النتائج واتهم النظام بالتلاعب بها فكان فوزا منقوصا سيفتح باب الاضطرابات السياسية على عميل فرنسا كيتا.
4- لم يؤيد الإمام محمد ديكو الرئيس أبو بكر كيتا بانتخابات 2018 ولم يترشح لرئاسة المجلس الإسلامي الأعلى بمالي فابتعد بهذا عن النظام ومؤسساته، وبالمقابل أسس في 07/09/2019 تنسيقية الحركات والجمعيات والمؤيدين للإمام محمد ديكو وهي الحركة التي ستتصدر المشهد السياسي بمالي في الفترة الأخيرة. فقد وصف الإمام محمد ديكو النظام "بالفوضوي والفاسد" ودعا الشعب للتظاهر يوم 06/03/2020 لتحديد مصيره بيده، فاستدعاه المدعي العام للتحقيق في شأن هاته التصريحات مما جعل أنصاره ينزلون للمحكمة ويحولون دون مثوله. وخوفا من تطور المظاهرات توجه وزير الخارجية لبيت الإمام لتقديم الاعتذار له نيابة عن الحكومة وقامت وساطات دينية بالتوسط لإلغاء المظاهرة وهو ما استجاب له الإمام. وفي 5 نيسان/أبريل 2019م قاد مظاهرة حاشدة للتنديد بمذبحة أوجاسوجو التي راح ضحيتها 160 مدنيّاً من جماعة الفولاني العرقية وطالب بإقالة رئيس الحكومة سيمولو بوباي مايجا لعدم قدرته على معاقبة المتهمين وإفلاتهم الدائم من العقاب، وقد استقال رئيس الحكومة بالفعل في 18 نيسان/أبريل 2019م. وتحالفت التنسيقية مع حركة استعادة الأمل في مالي بقيادة المخرج السنيمائي ووزير الثقافة الأسبق شيخ عمرو سيسوكو، وجبهة حماية الديمقراطية المكونة من 30 حزبا معارضا والتي تأسست بعد الانتخابات الرئاسية في 2018 التي شابتها اتهامات بالتزوير. ويقود الجبهة الآن تشوجويل كوكالا ميجا وهو وزير سابق حيث تولى وزارة الصناعة والتجارة في عام 2002 حتى 2007م، ثم عمل وزيراً للاتصالات من 2015م حتى 2016م. كما ضم التحالف أنصار المرشح الرئاسي صوميلا سيسي وعدداً من القادة السياسيين والعسكريين السابقين. فتأسس من هذا التحالف ما عرف بحركة 5 يونيو التي حشد لمظاهراتها الإمام محمد ديكو إلى أن قام الانقلاب العسكري بإقالة الرئيس كيتا.
5- يؤاخذ الحراك على الرئيس كيتا فشله السياسي والاقتصادي والأمني وعدم قدرته على الحفاظ على وحدة البلاد لكن القطرة التي أفاضت سيل الاحتجاجات كانت تزوير النظام للانتخابات البرلمانية التي أجلت عدة مرات ثم عقدت في أجواء كورونا والأعمال المسلحة ضد المترشحين، حيث اختطف المعارض والمرشح الرئاسي السابق صوميلا سيسي في 25/03/2020 واتسمت بسرقة صناديق الاقتراع والهجوم المسلح على المكاتب أيام الاقتراع. ورغم هذا الترهيب والتزوير لم يستطع الرئيس وحلفاؤه الفوز بالانتخابات فلجأوا لتزوير مفضوح حيث قامت المحكمة الدستورية في 30 نيسان/أبريل 2020م بإلغاء النتائج الأولية وتعديلها لصالح الحزب الحاكم، والذي كان حاصلاً على 43 مقعداً، فأضافت له 8 مقاعد ليصير 51، وكذلك أضافت لحزب التحالف من أجل الديمقراطية في مالي المتحالف مع الحزب الحاكم مقعدين ليصير له 24 مقعداً بدل 22، وقد تم خصم تلك المقاعد العشرة من نصيب الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات. انطلق الحراك فعليا بمظاهرته الحاشدة يوم 5 حزيران/يونيو والتي قدر المنظمون عددها بمليون مشارك رغم محاولات النظام لإلغائها من خلال إرسال الوسطاء ثم عرقلتها بقطع الإنترنت لمنع الحشد في وسائل التواصل. وقد صاغ الحراك مطالبه حينها في استقالة الرئيس ورئيس المحكمة الدستورية ورئيس البرلمان وإعادة الانتخابات، لكن رفض النظام حدى بالحراك للنزول للشارع ثانية في 19 حزيران/يونيو مما جعل المجتمع الدولي يوكل للمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا دور الوساطة بين النظام والمعارضة لحل الأزمة التي أصبحت تهدد الاستقرار بالمنطقة فاقترحت حلا وسطا ببقاء الرئيس وحل المحكمة الدستورية والبرلمان وإعادة الانتخابات وتعيين رئيس حكومة من المعارضة، الشيء الذي رفضه الرئيس أبو بكر كيتا وواجه المظاهرات بالعنف وسقط قتلى وجرحى فدعت المعارضة للعصيان المدني فقام الرئيس بحل المحكمة الدستورية وإعادة الانتخابات في الدوائر المختلف بشأنها ودعا المعارضة لحكومة وحدة وطنية لكن المعارضة تصلبت وتمسكت باستقالة الرئيس.
6- على المستوى الأمني العسكري عرفت الأشهر الستة الأخيرة وبالضبط يوم 23/03/2020 مجزرة في وسط البلاد بالتزامن مع زيارة لبعثة للأمم المتحدة راح ضحيتها بحسب بيان للأمم المتحدة 134 مدنيا على الأقل دعا فيه إلى فتح تحقيق وتقديم مرتكبي المجزرة للعدالة. وقد قام الرئيس كيتا بحل مليشيات "الدوغون" المدعومة من الحكومة والمتهمة بالهجوم، كما أقال رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة ونائبه ورئيس أركان الجيش ونائبه ورئيس أركان القوات الجوية ونائبه ومدير الأمن العسكري ونائبه. كما صدر تقرير أممي قدم يوم 07/08/2020 إلى مجلس الأمن الدولي يتهم مسؤولين كباراً بعرقلة اتفاق السلام مع الطوارق الموقع سنة 2015 ودعا إلى محاسبتهم من لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة. وذكر منهم رئيس أركان القوات البرية (2019-2020) الجنرال كيبا سانغاري، ووجهت أصابع الاتهام كذلك إلى أجهزة الاستخبارات التي قيل إنها تعرقل تنفيذ الاتفاق، كما قال التقرير إن المديرية العامة لأمن الدولة مولت شخصيات وحرضتها على الانشقاق عن تنسيقية حركات أزواد وهو التحالف الأساس في اتفاق السلام. واتهم التقرير كذلك الجنرال موسى ديوارا رئيس مديرية الأمن العام "بالتدخل شخصيا" في عملية اختلاس مرتبطة بعملية تخصيص حصص لدمج مقاتلين سابقين من المتمردين السابقين في الجيش.
رأيك في الموضوع