بعد أن تبين أن وباء كورونا أصبح وباء عالميا، وأنه مرشح لتهديد قطاعات كثيرة في الأسواق العالمية سارع مستثمرو أسواق الأسهم العالمية للتخلص مما لديهم من أسهم في خطوة استباقية من أجل المحافظة على أموالهم ما أدى إلى نشوء عملية محمومة من بيع كثير من الأسهم خاصة تلك المتعلقة بقطاعات النقل والبترول والمستلزمات الصحية والفنادق السياحية وغيرها، ما أدى إلى هبوط مؤشر داو جونز خلال شهر تقريبا (19/2 إلى 23/3) أن يخسر ما يقارب 11000 نقطة أي حوالي 37% من قيمة السوق. وكان سوق فوتسي في لندن قد شهد خسارة مشابهة.
والحقيقة أن الأزمة الماليَّة التي تمر بها أسواق الدول الرأسمالية ليست ظاهرةً جديدةً على نظام الرَّأسماليَّة، فقد مرَّت الولايات المتَّحِدة وأوروبا بفتراتٍ عدَّةٍ من الرُّكود والكَسادِ خلال المئة سنةٍ الماضيةِ، وخلافاً لجَميعِ الأزماتِ والاضْطِراباتِ في الماضي؛ فقد أثارت الأزمة الماليَّة عام 2008 وأزمة كورونا الحالية اهتماماً شديداً إزاءَ مِحنَةِ الرَّأسماليَّة، والبُنيَةِ التَّحتيَّةِ للعمودِ الفقريِّ للنِّظام الماليِّ والاقتصاديِّ الحاليِّ. وزادت عليها هذه المرة بالحديث المتواصل عن النظام العالمي واحتمال انهياره أو تبدله.
ويعلق جون ألين وهو جنرال أمريكي ومدير معهد بروكنجز بقوله "ستعيد أزمة كورونا تشكيل هيكل القوى العالمي بطرق يصعب تخيلها، حيث سيستمر الفيروس بالضغط على النشاطات الاقتصادية وزيادة التوتر بين الدول على المدى الطويل وسيخفض القدرة على الإنتاجية للاقتصاد العالمي"، ومن شأن هذه التطورات أن تنعكس مباشرة على الأسواق المالية. وهذا شيء طبيعي حيث إن هذه الأسواق هي مستودع للأموال الوهمية الناتجة عن أسعار غير حقيقية للأسهم ومقياس للزيادة بالمال الوهمي الافتراضي.
وقد لخصت مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy) الأثر المباشر لكورونا على الوضع الاقتصادي العام وما يتبعه من تأثير على العلاقات الدولية والنظام العالمي، من خلال آراء سياسيين واقتصاديين عالميين أمثال مدير معهد بروكنجز. وجاء في ملخص مجلة السياسة الخارجية أن أزمة كورونا تهدد بانتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد على سلاسل توريد عالمية، ونسف القواعد الحالية لعمليات التصنيع والإنتاج، ما يسرع دخول النظام العالمي الاقتصادي في مرحلة تباطؤ قد تؤدي إلى كساد عظيم. ولعل الانهيار الذي شهده السوق المالي منذ انتشار فيروس كورونا يشير بوضوح إلى هذه الظاهرة.
ثم ركز تقرير مجلة فورين بوليسي على الآثار السياسية للأزمة، على خلاف أزمة 2008، بقولها إن هذه الأزمة ستغير النظام العالمي وميزان القوى بشكل كبير، وسوف تظهر فشل المؤسسات الدولية القائمة في القيام بدورها المتوقع منها في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة، ومن ثم تفكك الاتحاد الأوروبي بعد فشله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه، وسيصبح العالم أقل انفتاحا وأقل حرية وأكثر فقرا.
والمراقب لحالة الاقتصاد العالمي خاصة في أمريكا يجد أن الثقة في الاقتصاد كانت قد وصلت أدنى مستوياتها على مستوى الاقتصاديات الكبرى خلال الثلاث سنين الماضية. فأوروبا كانت قد شهدت هروب كبار المستثمرين من الأسواق المالية سواء أسواق الأسهم أو البنوك، حيث لوحظ أن أكثر من 15 تريليون دولار قد تم استثمارها في سندات حكومية بنسبة ربا سالبة، أي أن المستثمرين كانوا يشترون سندات دين بخسارة، ولكنها خسارة مضمونة ومحددة، بينما كان التخوف من أن استثماراتهم في الأسواق المالية قد تعاني من خسارة كبيرة لا حدود لها. ولا نقول إن حدسهم قد صدق، ولكن نقول إن المستثمرين كانوا يدركون تماما أن الاقتصاد ليس في أفضل حالاته وأنه مرشح للانهيار في أي وقت وعند أول أزمة قد يواجهها الاقتصاد. وهذا ما حصل بالضبط عند أول انتشار لوباء، قد لا يكون أكثر خطرا من غيره، ولكنه جاء في فترة حرجة بالنسبة لاقتصاد لم يتعاف بالكامل أو بالحد الأدنى منذ أزمة 2008.
وكانت أمريكا من خلال البنك الفدرالي قد بدأت بتخفيض نسبة الربا على القروض الممنوحة للبنوك، كخطوة استباقية لحماية السوق من الانهيار. كما أن أمريكا بدأت ببيع سندات دين بنسبة ربا صفرية وأحيانا سالبة. ما يعني أن الاقتصاد والواقع المالي لأمريكا وأوروبا كان في غاية الهشاشة وعلى وشك الانهيار. ولم يكن يحتاج إلا إلى هزة أو كما تسميها بعض الأوساط صدمة قوية تجعل هذا البنيان ينهار. وهذا ما حصل فقد بدأ وباء كورونا بالانتشار، وتأكدت مخاوف المستثمرين في الأسواق المالية خاصة الأكثر مغامرة والذين احتفظوا باستثماراتهم في السوق المالي بدلا من سندات الدين، سارعوا لسحب أموالهم وبيع أرصدتهم من الأسهم، وهذه عملية تؤدي بشكل طبيعي وسريع لتدهور الأسعار وما يتبعه من انهيار.
وقد حاولت أمريكا أن تحافظ على تماسك السوق، وحين أدركت أن هبوط سعر النفط كان له أثر كبير في انهيار أسهم شركات النفط العملاقة عمدت للتدخل بشكل سافر لدى السعودية وروسيا للعمل على رفع أسعار النفط، وقد حصل ارتفاع (ولو مؤقت) بعد أن اجتمع ترامب برؤساء شركات النفط الكبرى والذين طلبوا منه التدخل بسرعة لوقف هبوط أسعار النفط. ما أدى إلى ارتفاع أسعار السوق المالي متأثرا باسترداد شركات النفط بعضا من خسائرها المالية المترتبة على هبوط أسهمها.
إلا أن سوق الأسهم المالي سوف يبقى تحت تأثير فصل أكثر من 10 ملايين من موظفي الشركات، وتوقف قطاعات كبيرة جدا من القطاعات الاقتصادية عن العمل لفترات طويلة. فجيش الموظفين هذا سوف يترتب عليه العجز عن وفائهم بديونهم المنوعة سواء منها ما كان متعلقا بالمساكن، أو السيارات، أو المشتريات اليومية من خلال بطاقات الائتمان أو غيرها. ثم إن كثيرا ممن يتلقون أموالا شهرية من أموال التوفير والتقاعد قد خسروا نسبة عالية من هذه الأموال ما ينعكس على حركة السوق اليومية، ويؤدي إلى انخفاض في الإنتاج كما توقعت فورين بوليسي. ومن ثم فإن الحكومة لن تتمكن من جمع ما يكفيها من الضرائب من الشركات المتعثرة والأفراد الموقوفين عن العمل. وعليه تكون أقل قدرة على القيام بوظائفها ودفع مستحقاتها والقيام بمشاريعها. وحتى لا يظهر العجز الكلي على حكومة أمريكا وغيرها من دول العالم الرأسمالي فقد عمدت إلى ضخ 2 تريليون دولار وقد تصل إلى 5 تريليون في أمريكا وحدها، من أجل التغطية على الانهيار ولو مؤقتا. ويعلم الاقتصاديون والسياسيون على حد سواء أن عملية ضخ المال بهذا الشكل لن تزيد الطين إلا بلة.
وهكذا فإن أزمة كورونا مرشحة أن تكشف عن عوار الاقتصاد الرأسمالي من أكثر من محور، ومن ثم من المحتمل أن تعصف بالنظام العالمي الذي سيطر على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وإنه وإن كان انهيار الاتحاد السوفيتي لم يترك فراغا حيث إن أمريكا ورأسماليتها عمدت إلى ملء الفراغ وحكم العالم بنظام واحد وقطب واحد. أما هذه المرة فمن يملأ الفراغ؟ فهل تنهض الأمة الإسلامية من كبوتها وتتقدم بنظام فريد من نوعه يقدم للعالم نموذجا لم تعهده من قبل وإن كانت قرأت عنه في كتب تاريخها؟
بقلم: الدكتور محمد جيلاني
رأيك في الموضوع