لم يكن مستغربا التمشي الذي سارت عليه السلطات التونسية في مواجهة كورونا، فقد عوّدنا أشباه الساسة في تونس أن ينتظروا الأوامر العلية القادمة من وراء البحار ليجعلوها قراطيس مقدسة لا يملكون إلا تنفيذها بعد إحاطتها بطقوس التبجيل والتمجيد من إعلام مأجور مرد على التضليل وأكل السحت، فكانت الخطوة الأولى هجمة إعلامية رهيبة صورت كورونا كغول متمرد سريع الانتشار لا يرى إلا ضحاياه بين مرضى يصارعون الموت ينشدون جرعة أكسجين وبين قتلى يغطون الشوارع وقد فاقت أعدادهم طاقات الدفن بهذه الأخبار المقرونة بصور حية وتصريحات غبية لبعض الساسة الغربيين، خيم الرعب واستوطن الهلع القلوب وروّضت الأنفس لتحمل الإجراءات الأليمة والحلول القاسية التي ستجود بها قريحة العباقرة، فالأمر جد وليس هزل.
وقد دأب حكام تونس منذ ما يسمى الاستقلال على ترويج فرية أننا دولة فقيرة ضعيفة الإمكانيات فلا يفوتون فرصة إلا أكدوا عليها حتى ظنوها من البديهيات التي لا تحتاج برهنة، وبما أننا والحال هذه فلا قِبل لنا بكورونا لا قدر الله إن استفحل، وها هي الدول المتحضرة وحتى العظمى منها قد وقفت عاجزة أمام صولة الوباء وصرعاه، فالحكمة والنجاة في الوقاية ومحاصرة الفيروس وكبح انتشاره، وأول الإجراءات منع التجمعات وتقليص احتكاك الناس بعضهم ببعض فتم تخفيض ساعات العمل في المؤسسات الخاصة والعامة وألزمت المقاهي بعدم تجاوز الرابعة مساء، أما المساجد - مؤرّقة دولة الحداثة والمصنفة بؤر إرهاب - فكان القرار في شأنها حاسما صارما، إيقاف الجماعات والجمع وغلق المساجد إلا لرفع الأذان في أوقات الصلاة! وقد قوبل القرار بالامتعاض والاستنكار من المسلمين لهذه السابقة الخطيرة التي لم يجرؤ عليها طاغية من قبل، ولكن زمرة المطبلين استطاعت ليّ أعناق بعض النصوص الشرعية وبررت الجريمة كون السلطة همها سلامة العباد ومصلحة البلاد ما أخمد أصوات الشجب!
أما الإجراء الأبرز والذي لا تخلو منه مثل هذه المناسبات فهو إحداث صندوق للتبرعات؛ فالمرافق الصحية جميعها تشكو نقائص عديدة والدولة فقيرة ولا يمكنها مواجهة كورونا إلا أن يتضامن التونسيون ويعبروا عن وحدتهم ولحمتهم ويسهموا في هذه الحرب، في سخرية قاتمة تنظّر للنهب المقنن.
في الأثناء وفي إطار الرفع من مستوى الوعي توجهت وزارة الصحة بالعديد من الإرشادات إلى عموم الشعب للتوقي من العدوى سواء عبر ومضات إشهارية أو بالبرامج المباشرة لمختصي السلامة والتي منها المداومة على غسل الأيدي بالمطهرات واستعمال المعقمات والإكثار من الاستنشاق والاستنثار وتجنب المصافحة والمعانقة للحيلولة دون تسرب الفيروس إلى الحلق ومنه إلى الرئتين مقصده للتكاثر وشل حركة ضحاياه، ولم تمض إلا أيام قليلة لتعلن السلطة حظر التجول من السادسة مساء إلى السادسة صباحا والإلزام بالحظر الصحي العام بعدم مغادرة البيوت إلا للضرورة القصوى، وأغلقت المقاهي والمطاعم وكل المؤسسات بأصنافها باستثناء فضاءات بيع الأغذية والأدوية، وقد تعهدت السلطة بتوفير حاجيات الناس والتعويض للمتضررين من الحظر خاصة أصحاب رأس المال إضافة إلى إسناد منحة بـ200 دينار للمعوزين.
كانت الإجراءات التي أخذت طابع الحرص على حياة الناس أكثر من مؤلمة؛ فغلق مواطن الرزق وحبس الناس دون السعي، مع إخلال السلطة بتعهداتها كما تفعل دائما، حيث عدمت مناطق عدة من البلاد المواد الأساسية الحيوية ومضى أكثر من أسبوع دون توزيع المساعدات على أصحابها ممّا أدى إلى تدهور الوضع وانطلاق الاحتجاجات، فخرج رئيس الدولة في اجتماع لما سمي مجلس الأمن القومي ليلعب دور المعارض الذي يحاسب الحكومة على تقصيرها ويتوجه بالنصح والإرشاد بدل الأمر والزجر في مشهد بائس يؤكد تبخر الدولة!
انتهت الإجراءات إلى شلل تام للحياة وحالة من التذمر والنقمة على الساسة ومردّ ذلك جميعه التمرد والإعراض عن أحكام الله، فلو أن هؤلاء الحكام استجابوا لأمر الله وطبقوا ما جاء في الهدي النبوي ما وصلنا إلى ما نحن فيه، ففي الوقت الذي طلبت السلطة من أهل البلد تقليص الحركة والتنقل، تركت المجالات مفتوحة على مصراعيها لدخول القادمين من مناطق موبوءة بينما كان يجب أن تغلق الحدود ويمنع الدخول والخروج إلى البلد لقوله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فهذا الإجراء وحده كان كفيلا لتجنب كل هذه المصائب، ثم إذا لم يطبقوا هذا بحجة أن القادمين هم أبناء البلد ومن حقهم العودة إلى أهاليهم كان عليهم توفير المآوي الميدانية على عين المكان سواء في الموانئ أو المطارات أو الحدود البرية لحجز الوافدين؛ وذلك لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم الممرض على المصح وأمره بالفرار من المجذوم، ثم إجراء التحاليل السريرية لتحديد المرضى من الأصحاء، وبذلك نُجنب البقية خطر العدوى، وإن لم يفعلوا هذه ولا تلك فالواجب إجراء التحاليل للجميع بغض النظر عن التكلفة لأنها مهما ارتفعت لن تبلغ الخسائر التي نتحملها اليوم بهذا الشلل الاقتصادي، وعلى أثر ذلك يميز المريض من الصحيح فيعزل المرضى ليعالَجوا ويسرح الأصحاء ليواصلوا السير العادي لأنشطة الحياة.
هذا هو الحل لإنهاء الأزمة، ولكن أنى لمن رهن قراره وباع إرادته إلى الكافر المستعمر أن يهتدي إلى الحق؟! وها هي السلطة سادرة في غيها وقد مددت الحجر الصحي لأسبوعين جديدين مع التلويح بإمكانية أن يتواصل الأمر إلى أشهر وما يمكن أن يسفر عنه من إفلاس ودمار لاقتصاد منهار، فقد ضيّعت الأمانة ووكّل الأمر إلى غير أهله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بقلم: الأستاذ طارق رافع
رأيك في الموضوع