شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً في تدخل القوى الأجنبية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، باستخدام أساليب خفية واستراتيجية للتأثير على النتائج والرأي العام. ولعبت روسيا والصين دوراً بارزاً، مستخدمتين وسائل التواصل الإلكتروني وحملات التضليل والذكاء الاصطناعي للتأثير على الناخبين. هذا التدخل لا يقتصر على الحملات الوطنية، بل يمتد إلى الانتخابات المحلية ويستهدف القضايا الاجتماعية الحساسة لإشعال الخلافات بين الأمريكيين. وتعتمد هذه القوى على استراتيجيات موجهة تستغل الاستقطاب والتوترات العميقة في المجتمع الأمريكي، بهدف التأثير على سلوك الناخبين وآرائهم.
التدخل الروسي في انتخابات عام 2016
في عام 2016، أظهر التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية مستوى جديداً من التعقيد في أساليب التدخل الأجنبي. وخلصت أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى أن روسيا كانت تفضل دونالد ترامب باعتباره أكثر ملاءمة لمصالحها من هيلاري كلينتون، التي تبنت موقفاً حازماً تجاه العقوبات على روسيا، ما جعلها أقل قبولاً لدى موسكو. وفي ذلك العام، أنشأ عملاء روس حسابات وهمية على وسائل التواصل الإلكتروني استهدفت الناخبين من أصل أفريقي، محاولين إقناعهم بعدم التصويت بزعم أن أصواتهم لن تُحدث فرقاً أو أن الأحزاب لا تعبر عن مصالحهم.
وفي هيوستن، تكساس، نظم عملاء روس احتجاجات متعارضة عبر مجموعات على فيسبوك، دون أن يعلم الناس أن الأحداث كلها من تنظيم الأطراف الأجنبية نفسها. حيث دعت مجموعة تدعى "قلب تكساس" إلى احتجاج ضد ما وصفوه بـ"أسلمة" تكساس، بينما دعت مجموعة أخرى تحت اسم "المسلمون الموحدون في أمريكا" إلى تجمع مضاد لدعم الإسلام. وكان الهدف من هذه العملية واضحاً وهو زيادة حدة الانقسام. وأكد السيناتور ريتشارد بور على هذا التلاعب قائلاً: "من الصعب أن تحضر حدثاً في هيوستن، تكساس، بينما تدير الأمر من موقع في سانت بطرسبرغ، روسيا".
أمثلة على عمليات التدخل الأجنبية الحالية في عام 2024
شهدت انتخابات عام 2024 تطوراً في أساليب التدخل من روسيا والصين، ما يدل على تكتيكات أكثر دقة واستهدافاً. فقد تركزت حملة روسيا ضد كامالا هاريس على استخدام مقاطع فيديو مفبركة بالذكاء الاصطناعي ونشر معلومات مضللة موجهة لمجموعات ديموغرافية معينة. وأوضح المحلل الأمني كلينت واتس من مايكروسوفت مدى فعالية هذه الاستراتيجية بقوله: "قدرة الأطراف الأجنبية على نشر محتوى خادع بسرعة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على تصورات الجمهور ونتائج الانتخابات".
وقد وسّعت روسيا انتشارها الاستراتيجي على منصات مثل إكس، حيث انتشرت على نطاق واسع مواد مزيفة تعتمد على الذكاء الاصطناعي عن هاريس. هذا المحتوى المفبرك يظهر كيف تستغل القوى الأجنبية التقنية لخداع الجمهور.
تورط حزب العمال البريطاني في انتخابات 2024 الأمريكية
رغم سيطرة روسيا والصين على عناوين التدخل الأجنبي، فإن اتهامات جديدة موجهة ضد حزب العمال البريطاني أظهرت أن التدخل لا يقتصر على خصوم أمريكا. فقد اتهمت حملة ترامب متطوعين من حزب العمال البريطاني بتقديم دعم ميداني لنائبة الرئيس هاريس في ولايات حاسمة مثل بنسلفانيا وكارولاينا الشمالية. ووصفت سوزي وايلز، المديرة المشاركة لحملة ترامب، هذا التدخل بأنه "محاولة يائسة جديدة في سلسلة طويلة من التدخلات المعادية لأمريكا".
نظرة تاريخية: تدخلات أمريكا في انتخابات الدول الأخرى
تتناقض الانتقادات الأمريكية للتدخل الأجنبي في انتخاباتهم مع تاريخ الولايات المتحدة في التدخل في الانتخابات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، قادت وكالة الاستخبارات المركزية عملية أياكس للإطاحة برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953، والذي هددت قراراته المتعلقة بتأميم النفط المصالح الغربية. ونجحت الوكالة في الإطاحة بمصدق عبر مظاهرات مدبرة وحملات دعائية ورشاوى. وفي سوريا، دعمت الوكالة انقلاب حسني الزعيم عام 1949، ما يعكس تدخل أمريكا في تغيير الحكومات لصالحها.
وفي أمريكا اللاتينية، تدخلت الولايات المتحدة للسيطرة على نتائج الانتخابات، كما حدث في تشيلي عام 1973، حيث دعمت الانقلاب ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً سلفادور ألليندي، ما أدى إلى سنوات من الحكم الديكتاتوري تحت حكم الجنرال بينوشيه. وبالمثل، في غواتيمالا عام 1954، دعمت وكالة الاستخبارات المركزية الانقلاب ضد الرئيس جاكوبو أربينز، خوفاً من أن تلهم إصلاحاته الزراعية حركات اشتراكية. هذه الأمثلة تسلط الضوء على استعداد أمريكا لتشكيل حكومات خارجية لصالحها، وإن كان ذلك على حساب المبادئ الديمقراطية التي تنادي بها.
تأثير التدخل الأجنبي على مجتمع منقسم
يعكس التدخل الأجنبي في الانتخابات الأمريكية أثراً عميقاً في نسيج المجتمع المنقسم أصلاً. تُضخّم هذه التدخلات مشاعر عدم الثقة وتعزز الانقسامات، حيث تستغل القوى الأجنبية المناخ المشحون أصلاً بالقضايا الحساسة لإشعال الفتنة. وتستغل هذه القوى الانقسامات المجتمعية العميقة لتحقيق مزيد من الشرخ في المجتمع نفسه. وكما أشار مساعد المدعي العام ماثيو أولسن، "جهود التلاعب بالناخبين... تشكل خطراً حقيقياً وقائماً". قد تكون هذه التصريحات للتحذير من تهديد الديمقراطية، لكنها تكشف هشاشة نظام منقسم بشدة بسبب الاستقطاب.
نمط مستمر يستغل بسهولة
يكشف التاريخ عن نمط متكرر للتدخل الأجنبي؛ سواء في جهود التضليل الروسية المنهجية عام 2016 أو في الاتهامات الأخيرة التي تتعلق بتورط حزب العمال البريطاني، حيث تكشف هذه الأمثلة كيف أن الانقسامات العميقة في المجتمع في أمريكا تُستخدم كأدوات في أيدي الأطراف الأجنبية. وتضيف الولايات المتحدة بحد ذاتها طبقة أخرى من السخرية، فبينما تستخدم أطراف أجنبية تكتيكات مشابهة لتلك التي تستخدمها أمريكا في الخارج، تبيّن هذه الأطراف كيف يمكن لأمريكا المنقسمة بعمق أن تكون عرضة للتلاعب من الخارج بسهولة.
بقلم: د. ديوان أبو إبراهيم - أمريكا
رأيك في الموضوع