تزامناً مع ذكرى اندلاع ثورة التحرير الجزائرية سنة 1954م خرجت حشود غفيرة من المتظاهرين لتملأ شوارع وساحات العاصمة الجزائر والمدن الكبرى في مختلف أنحاء البلاد يوم الجمعة 01/11/2019م. فقد توافد المحتجون خاصة من الشباب وسط تعزيزاتٍ أمنية مشددة للأسبوع الـ37 من الحراك في مظاهرات وصفت بالمليونية رفضاً للانتخابات الرئاسية في ظل النظام القائم، المقررة في الثاني عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل.
إلا أن تطورات الساحة السياسية في الجزائر تنبئ عن مدى إصرار قيادة أركان الجيش الممسكة بالبلد على إجرائها في موعدها ومدى تصميمها بشكل استفزازي على الوصول إلى آخر محطة مما تعتبره مرافقةً للحراك وتلبية لمطالب المحتجين!! كما أن مراقبة ما يحدث في البلد منذ أشهر أظهرت كيف جرى ويجري الآن بشكل ممنهج عبر إعلام السلطة ترويضُ الشعب بالتهديد والتخويف من عواقب تأجيل موعد الاستحقاق، بل ويجري توظيفُ الحراك واستمالةُ الشارع من المؤسسة العسكرية بالتأكيد على "عدم المساس" بالمتظاهرين عبر خطابات رئيس الأركان المتكررة والمتعاقبة لإمضاء خارطة طريق السلطة الفعلية، متجاهلةً في واقع الأمر نداءات الشارع المطالبة بإحداث القطيعة مع كل رموز منظومة الحكم السابقة. علماً أنه قد حصلت بالفعل منذ بداية الحراك اعتقالاتٌ لمئات من رؤوس ورموز المناوئين والخصوم هم الآن في السجون. هذه الخطابات التي ظلت على مدى أشهر تدغدغ مشاعر أهل الجزائر من خلال مزج الوطنيةِ بالدين عبر خرجات رئيس الأركان التي تتكرر فيها من الثكنات عباراتٌ مثيرة للمشاعر الوطنية مثل "أعداء الوطن" و"أزلام العصابة" و"المتآمرين على الجزائر من أزلام الاستعمار"، واصفاً المتظاهرين بـ"الشرذمة" و"الأطراف المشبوهة المدعومة من الخارج"، ومؤكداً على أن إجراء الانتخابات هو ما سيضع حدّاً لمن يحاول إطالةَ أمد الأزمة وما سوف يحقق التوافق الذي يُخرج البلد من المأزق! بينما يتكرس في الطرف المقابل عند حشود المحتجين في الشوارع والمتظاهرين في كل يوم ثلاثاء وجمعة منذ ثمانية أشهر رفضُ مسار الانتخابات والتأكيدُ على التغيير الجذري ومطلب الدولة المدنية بمعنى إبعاد العسكر عن السياسة باعتبار ذلك هو وحده ما سوف يُخرج البلدَ من المأزق، رافعين شعارات مناوئة لكل رموز السلطة الفاسدين ولقائد الأركان نفسه، وخاصة شعار "لا انتخابات مع العصابات".
يذكر أن السلطة الفعلية المتمثلة في قيادة أركان الجيش عمدت مؤخراً بعدما نجحت في احتواء زخم الحراك الشعبي بعد أشهر من انطلاقته، وبعد تنصيب ما أسمته السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات برئاسة وزير العدل الأسبق محمد شرفي ثم فرض مسار إجراء الانتخابات قبل نهاية السنة الجارية. عمدت إلى إجراء تعيينات وتحويلات في سلك القضاء هزت قطاع العدالة إذ طالت أزيد من نصف عدد القضاة بتغيير أماكن عملهم وتحويلهم من مناصبهم التي شغلوها لسنواتٍ، مع كل ما يستلزم ذلك من إجراءات وترتيبات نظراً لارتباطاتهم من حيث المكان ومن حيث الولاء، وهو ما أحدث استياءً كبيراً لدى هؤلاء القضاة وفجر إضراباً مِهنياً رافضاً لتدابير الوزارة والإملاءات الفوقية ومطالباً في الظاهر باستقلالية القضاء. علماً أن هذه الحركة الاحتجاجية في وسط القضاة كان قد تجاوب معها - لأسباب وأغراض متباينة - أزيد من 95% بحسب نقابة القضاة وممثليهم، ولكن الوزارة الوصية أصرت على أن الإضراب غيرُ قانوني على لسان وزير العدل الحالي بلقاسم زغماتي المقرب من قائد الأركان، محذرةً من عواقب مواصلة الإضراب. أما سياسياً وأمنياً فإن هذه التحويلات تؤشر إلى أن سلطة الأمر الواقع تتوقع - خاصةً في العاصمة - صداماً مع الرافضين لمسعاها حتى بعد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها يوم 12/12 المقبل. فهي من الآن تستعد لتوظيف قطاع العدالة بالأوامر في مهام حساسة في موضوع الانتخابات أي في التأطير والإشراف على العملية الانتخابية وفق رؤيتها وما تخططه للمرحلة، إلى جانب مَن سوف تستخدمهم من إطارات قطاع التعليم العالي - كما تردد - لضمان حسن سير العملية. علماً أنه قد تم حصرُ عدد المرشحين لمنصب الرئاسة من سلطة الانتخابات في خمسة من أزلام النظام نفسه من الوجوه القديمة والممقوتة شعبياً والإعلانُ عن أسمائهم في انتظار البت في الطعون، وهو ما يعد استفزازاً كبيراً للحراك. ولكن السلطة أيضاً تستعد لمرحلة آتية من المواجهة والقمع وضرب الخصوم والمناوئين بإعداد وتسخير جهاز "العدالة" وتطويعه بالإغراء والضغوط المادية والمعنوية ليكون حازماً لإصدار الأحكام "اللازمة" الآتية من أعلى الهرم، فضلاً عما تُعدُّه من قوى أمنية من درك وشرطة لمنع التظاهر خاصةً في عاصمة البلاد من أجل السيطرة على الشارع وليكون جاهزاً لتسليط العقوبة بالسجن أو الإسكات أو الإبعاد أو غير ذلك على كل الخارجين على "الشرعية الشعبية" المتمثلة في الرئيس القادم أي مَن سوف تفرزه الصناديق. هذه هي الديمقراطية!! ولسوف يتوارى دورُ الجيش مجدداً كما في السابق بعد تنصيب الواجهة!
كل المؤشرات إلى هذه اللحظة تُظهر أن الأمور على الأرض تتجه نحو المواجهة إما عبر إسقاط الانتخابات بنجاح الحراك المتواصل والمتصاعد في إفشال مسعى المؤسسة العسكرية الحاكمة مع اقتراب موعد الرئاسيات المفروضة والمرفوضة شعبياً بحسب المطالبين بمرحلة انتقالية من أزلام الطرف المناوئ للزمرة الممسكة بمقاليد السلطة المرتبطة بالإنجليز عبر دولة الإمارات ومَن يشتغلون من الداخل والخارج بكل طاقاتهم لمنع حدوثها ولفرض تأجيلها، وهم مَن يعتبرهم قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح عملاء الاستعمار وأزلامَ العصابة الخونة المتآمرين على الجزائر، وإما - وهو الراجح - برفض الشارع لنتائجها بعد نجاح السلطة في تنظيمها وإجرائها!! يذكر أنه في أول موقف رسمي واضح من حراك الجزائر، دعت فرنسا على لسان رئيسها إلى حوار حقيقي (!!) في نفس يوم الاحتجاج المتزامن مع ذكرى اندلاع ثورة التحرير عشية الإعلان عن أسماء المرشحين الخمسة!!
والحقيقة الساطعة هي أن أزلام الاستعمار في بلاد المسلمين، المتصارعين فيما بينهم أحياناً والمتوافقين أحياناً أخرى بحسب المصالح، والذين حكموا المسلمين لعقود بعد ذهاب دولة الخلافة، وصلوا بالبلاد والعباد في جميع الأقطار إلى حالة فظيعة من التردي والانهيار الشامل على جميع الأصعدة، وهو ما حوَّل كافة الأقطار إلى سجون، وكبل أهلَها بالقيود، وحوَّل الشعوب إلى "خزانات من الوقود" متأهبة في كل حين للاشتعال والانفجار في وجوه الطغاة الظالمين والعملاء الخانعين. وفي حالة الجزائر فإن الزمر النافذة المرتبطة بالمستعمِر الأوروبي منذ نشأة الدولة الوطنية في 1962م، عبثت بالبلاد وثرواتها وهوية أهلها ستة عقود، وكرست أصنافاً شتى من الفساد في كل القطاعات وعلى جميع المستويات، وبالأخص زمرة بوتفليقة عميل الإنجليز خلال العقدين الماضيين، حتى وصلت بأهل الجزائر إلى حالة مزرية من الانحدار والسفالة والهبوط. فكل ذلك كان مؤذناً بانفجار كبير في وجه السلطة لا تُعرف عواقبه، إلا أن غياب رؤية واضحة لدى الثائرين بخصوص المنظومة السياسية التي ينبغي أن تكون بالنظر إلى عقيدة الأمة، ينذر الآن بذهاب جهود الثائرين وتضحياتهم أدراج الرياح، وهكذا تتكرر المآسي المرة تلو المرة بسبب التنكر لهوية الأمة المتمثلة في الإسلام ولا شيء سواه. فالسلطة الفعلية في الجزائر، وبعد عقود من الظلم والقمع وسوء الرعاية والنهب، تُـناور الآن ومنذ بداية هذه الانتفاضة الشعبية لإعادة إنتاج منظومة الحكم السابقة نفسها ولكن بطريقة جديدة مختلفة تلتف بها على كل المطالب الشعبية، لكي تضمن مصالحها ومصالح الأجنبي المستعمِر التي تتناقض كلياً مع مصالح شعب الجزائر المسلم!
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيـم
رأيك في الموضوع