منذ انطلاق انتفاضة الناس في لبنان في 17 تشرين الأول 2019، والطبقة السياسية الفاسدة ما زالت تمارس سياستها المهترئة في محاولةٍ منها لوأد حراك الناس، الذي انطلق غضباً على سياسات الفساد السياسي والاقتصادي، الذي مارسته الحكومات المتعاقبة لثلاثين سنةً، ما أورث البلاد ديوناً أثقلت كاهلها تصل إلى قرابة الــ90 مليار دولار، مع بقاء كل الخدمات الأساسية في البلد من مثل الكهرباء والماء والبنى التحتية في أدنى مستوياتها، الأمر الذي صار محط تندرٍ من كل من يعرف لبنان وحاله المزري.
إن هذه السنين الثلاثين العجاف قد فرخت طبقة فاسدةً، من السياسيين أولاً، ومن المنتفعين ثانياً، بل صار الساسة هم التجار أو شركاؤهم، وهم أصحاب المصارف، وهم المتحكمون بمفاصل البلد الأساسية، بحيث تحول لبنان لمزرعةٍ تدر عليهم الأرباح، حتى قيل إن ثروات هؤلاء المهربة إلى الخارج، تصل إلى قرابة 300 مليار دولار!! الرقم الذي ثلثه أو أقل يقضي على كل ديون لبنان.
لذا كان حراك الناس تعبيراً حقيقياً عن صرخة وجع وظلم وفقر وفسادٍ يطال مختلف جوانب الحياة.
ومع استمرار الحراك - وهو الأول من نوعه منذ نشأة الكيان اللبناني، لناحية خروج الناس على حكامهم وطوائفهم - ما زالت السلطة تحاول القيام بتصرفاتٍ عنجهية، فبرغم كل الفساد الضارب في أطناب البلد، لاحظنا أن الملفات القضائية التي أُوهم الناس بفتحها تتعلق بمحاولة إثارة النعرات بين المتحركين على الأرض، فالأجهزة السلطوية القضائية بجزء كبيرٍ منها محسوبة على حزب إيران في لبنان، وعلى تيار رئيس الجمهورية، التيار الوطني الحر، لذا كانت الاستنابات القضائية التي صدرت، أو الملفات التي حُركت، هي بحق الوزير السابق فؤاد السنيورة، ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، المحسوبين في هذا الكيان الطائفي المقيت على "الطائفة السنية". ولم تفتح ملفات فساد أخرى، مما يشير إلى محاولة إيقاظ النعرات في الشارع بين المتظاهرين، وإيهام المسلمين وتحديداً "السنة" منهم، أنها حربٌ عليهم، فينفض المتظاهرون عن بعضهم.
لكن هذه اللعبة لم تخدع الناس ولم تنطل عليهم واستمر حراكهم. هذا علاوة على أن العلاقة بين المسلمين "السنة" ومن يزعم قيادتهم في لبنان، هي علاقة ضعيفة هشة، بسبب سنين من الوعود الكاذبة من تلك القيادات لجماهيرها في ملفاتٍ كثيرةٍ، وعلى رأسها ملف المعتقلين الإسلاميين، الذين يمضون سنواتٍ من السجن التعسفي بلا محاكماتٍ، مع استمرار وعود هذه الطبقة الفاسدة التي تزعم قيادتهم بإنهاء هذا الملف.
وليس بعيداً من ذلك ما كان قام به رئيس الجمهورية ميشال عون في خطابه في 31/10/2019 حيث قال: (... إنني أتعهد ببذل الجهود لإقامة الدولة المدنية والتخلص من الطائفية، والبداية من قانون موحد للأحوال الشخصية...)، مع أن المتابع لانتفاضة الناس وحراكهم يعلم أن هدفها هو إنهاء حالة الفساد والقضاء على المفسدين، إضافة للمطالبة بإصلاحات اقتصادية ومعيشية، دون التطرق للأحوال الشخصية والمحاكم الشرعية، إلا في أصوات خافتة معروفة بهذا الطرح منذ زمن، وهي تحاول استغلال ثورة الناس وحاجاتهم لتمرير بعض هذه الأفكار. هذا الطرح الذي طرحه رئيس الجمهورية في خطابه، وفي سياقٍ غير منسجم مع ثورة الناس، يأتي كلُغم ألقي بين يدي المتحركين المنتفضين على الأرض، يُشغلهم بقضية معلومة حساسيتها، وأنها قد تثير "المرجعيات الدينية" وتثير الشارع الإسلامي، وبالتالي قد تؤدي إلى إشكالية تخفف من حدة الثورة، إضافةً إلى أنها قد تؤدي إلى انقسام بين المنتفضين الذين هم من جميع "الطوائف"، وجزء كبير منهم يرفض المساس بقانون الأحوال الشخصية، ولا يبتعد عن ذلك أن تكون محاولةً لدغدغة مشاعر العَلمَانيين الموجودين بين المنتفضين، استجداءً لعاطفتهم تجاه رفضهم لكل شيء ديني. لكن كما ظهر لم يأخذ هذا الأمر أي بعد عند المنتفضين، وهذا يُعد إشارة جيدة تنبه الناس لفساد هذه الطبقة وتصرفاتها.
إن الحَراك المستمر، تستخدم معه الطبقة الفاسدة، أساليب فاسدة من جنسها، لكن هذا ليس ببعيد عن استمرار الراعي الأساسي للبلد، أي أمريكا، في محاولة اجترار حلول ترقيعية، وعدم مسارعتها للقيام بأي حل، وذلك بسبب عدم خشيتها من انفلات العقال من يدها، فمجمل الطبقة السياسية الفاسدة، التي تحكم اليوم البلد، هي تابعةٌ لأمريكا في ولاءاتها السياسية، وتستند في تحركاتها وتعليماتها لأمريكا، بل لسفارتها في لبنان، وما زالت أمريكا تخاطب هؤلاء الفاسدين بكونهم سلطة، برغم نزع الناس لسلطان هؤلاء الحكام، من خلال هذا الحراك المستمر، مما يعني أن أمريكا تتروى في حل القضية، تاركة لهؤلاء الفاسدين مجالا وهامشا من التحرك، وهؤلاء لا يعرفون إلا أساليب تحمل البعد الطائفي والمذهبي، لذا فإن إثارة قضايا ضد طرف دون أطراف هو من هذا الباب، وإلقاء الشبهات بين المنتفضين على الأرض هو من هذا الباب.
لقد أثبت حراك لبنان والعراق، وحراك السودان وحراك الجزائر المستمر، أن وعي الأمة يتقدم يوماً بعد يوم، بدأ في ثورات الربيع العربي منذ 2011 بالمطالبة بالحرية والإصلاح، لكنه انقلب لحرب من الأنظمة على أهل البلاد، وكان التركيز على إسقاط شخص الرئيس، لتتطور اليوم إلى المطالبة بإسقاط طبقات سياسية بأكملها، وازدياد وعي الناس على محاولات الأنظمة لشيطنة الحراك، وهذا نوع من تطور الوعي عند الأمة.
نعم، صار هناك رأي عام على إسقاط الطبقة السياسية الفاسدة، وهذا مؤذن بهلاك هذا الوسط السياسي، لكن بقي للأمة أن تلتفت إلى من يقودها بوعي وإخلاص، وبهدف ثابت واضح، فينتج ذلك وعيا عاما ينبثق عنه رأي عام، ليكون التغيير الجذري بإذن الله، وهو عمل يحتاج لجهد الواعين، وغشيانهم لصفوف الناس، فتبرز قيادتهم، وتبنيهم لمصالح الناس في اتجاه الهدف المأمول.
بقلم: المهندس مجدي علي
رأيك في الموضوع