ما يزال الوضع السياسي في السودان ضبابياً يشوبه الكثير من التعقيد، الذي أوجدته التدخلات الأجنبية الكثيرة لقوى متصارعة، كل منها يريد أن يوجد له نفوذاً أكبر في البلاد، فالدول الأوروبية وبخاصة بريطانيا تعمل عبر منظمات أممية وغيرها لمساندة قوى الحرية والتغيير، وتقوية موقفها، مقابل المجلس العسكري الذي تقف خلفه أمريكا بقوة، عبر عملائها في المنطقة، وعبر المنظمات الإقليمية التابعة لها، فقوى إعلان الحرية والتغيير تصعّد من جانبها بالمظاهرات والمسيرات للضغط على المجلس العسكري، وبالمقابل يقوم المجلس العسكري بالتحشيد والتهديد بإقامة حكومة تصريف أعمال، والتهيئة لإجراء انتخابات خلال عام، فقد حشد المجلس رجال الإدارة الأهلية، وطلب منهم تفويضاً، وفي إحدى هذه اللقاءات، وبمحلية شرق النيل بولاية الخرطوم، قال نائب رئيس المجلس العسكري الفريق أول حميدتي: (إن كل الشباب الذي غير نظام الإنقاذ، وحكم البشير، والذين كانوا أمام القيادة العامة وغيرهم سيقومون بتشكيل حكومة الكفاءات لتسيير المهام حتى تسلم لحكومة مستقلة)، وأوضح أنه لا يمكن أن يمنح 67% لقوى الحرية والتغيير للتحكم في الناس، ويفرضوا رأيهم، وهذا أمر لا يقبله أي شخص.
وحتى يثبت المجلس العسكري أقدامه، أقدم على خطوة مستبقاً قيام الحكومة الجديدة، وذلك بإصدار قرار يوم الاثنين الماضي بإطلاق سراح أسرى ومحكومي كل الحركات المسلحة المعتقلين والمحكومين منذ اندلاع الأزمة في إقليم دارفور في العام 2003م، كما شكل لجنة للاتصال بالحركات المسلحة برئاسة نائب رئيس المجلس العسكري حميدتي، وعضوية الفريق شمس الدين، رئيس اللجنة السياسية والناطق الرسمي باسم المجلس العسكري، وياسر العطا عضو المجلس، وغيرهم. وقد باشرت فعلاً هذه اللجنة عملها، والتقت في انجامينا، العاصمة التشادية بأركو مني مناوي، رئيس حركة تحرير السودان، كما التقت ممثل حركة العدل والمساواة. وشارك في هذه اللقاءات الرئيس التشادي إدريس ديبي.
ورغم هذه التجاذبات بين العسكري والحرية والتغيير، إلا أن أمريكا قد أحكمت سيطرتها على الوضع في السودان عبر المجلس العسكري، وبخاصة بعد فض اعتصام القيادة العامة للجيش، الذي كان بمثابة كرت الضغط الرابح لقوى الحرية والتغيير، لذلك نجد أن أوروبا، وحتى لا تفقد كل النفوذ، نجدها قبلت بما يسمى بالمبادرة الأفريقية الإثيوبية، وقد أكد ذلك مبعوث الاتحاد الأفريقي للسودان محمد حسن ليباد في مؤتمر صحفي مشترك مع المبعوث الإثيوبي يوم السبت 29/06/2019م، حيث قال: (تلقينا موافقة المجلس العسكري، وقوى الحرية والتغيير على المقترح، وهما يعكفان على دراسته)، والجدير بالذكر أن المقترح الجديد يركز على مجلس الوزراء والمجلس السيادي، ويغفل المجلس التشريعي الذي هو مثار الجدل والرفض من المجلس العسكري. وقد أعلن المجلس العسكري تسلمه مقترح الوساطة الجديد بشأن الفترة الانتقالية قائلاً: (إن المقترح يمكن أن يشكل قاعدة لاستئناف التفاوض)، وقد صرح الناطق الرسمي باسم المجلس، الفريق شمس الدين أن المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير انخرطا في جلسة تفاوض نهار أمس السبت (29/06) وأعقباها بجلسة أخرى عند الثانية عشرة ليلاً، وقال الفريق شمس الدين إنهم جلسوا بناء على المبادرة المشتركة، وقال إن أبرز ما تمت مناقشته، هو مستويات السلطة (السيادي والتنفيذي)، وإنهم اتفقوا مبدئياً على تكملة الاتفاق في المستويين، وأضاف (نعلق المجلس التشريعي إلى ما بعد تشكيل الحكومة، وتشكيل المجلس السيادي وسنؤكد على ذلك). وهذا يعني أن الأمور تسير نحو توافق تكون الغلبة فيه لرجال أمريكا والكلمة العليا لهم.
هذا من الناحية السياسية، أما من الناحية الاقتصادية التي لا تنفك عن الحالة السياسية، فإن الفوضى تضرب الأسواق، حيث ارتفعت جل السلع ارتفاعاً جنونياً، كما استمرت صفوف الخبز والوقود في العاصمة، بل عادت بصورة حادة في الأقاليم، وقد وصف رئيس المجلس العسكري في لقائه بالصحفيين يوم الجمعة 28/06/2019م البلاد بأن (حالها واقف)، وأن البلاد مسيرة أمورها بما لا يعرفه الناس، مواصلاً قوله: بأن بنك السودان ما كانت في السابق تصله الأموال، ولا ندري أين كانت تذهب! وقال: نحاول إصلاح ذلك، ولا بد من شكر الدعم السريع على الدعم من موارده!! كذلك نسخر مال وزارة الدفاع لإصلاح الحال، صعبٌ استمرار الحال على هذا المنوال. مضيفاً: دولة عرجاء كانت تمشي بلا هاد، وكانت ستنهار من تلقاء نفسها.
حديث البرهان هذا يبين حال الناس في هذا البلد الذي ثار ضد الظلم والتضييق في المعاش! وقد طالب البرهان في حديثه للصحفيين (بفرض رأي وكلمة الشعب حتى لا تعود البلاد لعادتها القديمة، أنظمة برلمانية تعقبها انقلابات عسكرية. لا بد من طرح السؤال عن الأسباب المفضية لهذا الواقع وصولاً لإجابة يريدها الناس نظاماً جديداً للحكم بعيداً عن دوامة الفشل...).
إن هذا الحديث الأخير الذي ذكرناه للفريق البرهان هو بيت القصيد، فإن كان البرهان جاداً فيما يقول، فإن النظام الذي يحل المشاكل ويوجد الحياة الكريمة، ويخرجنا مما نحن فيه الآن وإلى قيام الساعة، إنما هو بالرجوع إلى عقيدة الأمة، وبناء النظام على أساسها، فقد أرسل حزب التحرير رسالة للبرهان يبين فيها الحل الجذري، ويطلب منه تسليم السلطة لحزب التحرير حتى يقيم هذا النظام الذي يبعد الناس عن أنظمة الفشل التي ذكرها، عسكرية كانت أو مدنية... إن النظام الذي يجب أن يحل محل هذه الأنظمة الوضعية الساقطة الفاشلة، هو نظام الإسلام، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، هذا أو استمرار دوامة الفشل.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع