إن التوافق الذي حصل بين المجلس العسكري، وبين إعلان قوى الحرية والتغيير، لن يكون نهاية الخلاف بينهما، فهو لا يعدو أن يكون استراحة محارب، لا يمكث إلا قليلاً ثم يبرز بوجه جديد، في ساحة جديدة من ساحات معركة الخلاف، وذلك لكثرة عناصر الخلاف الداخلية، وكثرة التدخلات الأجنبية المتصارعة على هذه الثورة... ونحاول في هذا المقال أن نحصي جزءاً من هذا الصراع.
إننا إذا نظرنا إلى النشاط الأمريكي نجده قد بدأ في وقت مبكر جداً، فقد بدأ منذ اندلاع التظاهرات، لكنه بلغ ذروته عندما اعتصم المتظاهرون حول القيادة العامة للقوات المسلحة في قلب العاصمة الخرطوم، ففي العاشر من نيسان/أبريل أي قبل سقوط النظام بيوم واحد، قام القائم بأعمال أمريكا في السودان ستيفن كوتسيس بزيارة لمكان الاعتصام، والتقى بعض الشباب المعتصمين على الرغم من المخاطر الأمنية التي تحيط بالمكان، وقد توالت هذه الزيارات إلى أن بلغت أربعاً في يوم 08/05/2019م، حيث شارك المعتصمين إفطار ذلك اليوم من شهر رمضان. وفي 14/4/2019 التقى نائب رئيس المجلس الانتقالي محمد حمدان حميدتي القائم بأعمال أمريكا في القصر الجمهوري وأطلعه على الأوضاع والتطورات في السودان، ومن جانبه رحب القائم كوتسيس بدور المجلس العسكري في تحقيق الاستقرار، وأمن على ضرورة التعاون بين الجانبين بما يعزز العلاقات السودانية الأمريكية. وبعد يوم واحد التقى رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان بكوتسيس ضمن وفد الترويكا (بريطانيا، أمريكا، النرويج). وفي 20/4/2019م زار وفد من الخارجية الأمريكية السودان برئاسة ماكيلا جيمس نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية التي قالت (نحن هنا لتشجيع الطرفين على العمل معا لدفع هذا المشروع قدما لتكوين حكومة مدنية في أقرب وقت ممكن). كما أجرى نائب وزير الخارجية الأمريكي جون سوليفان اتصالا هاتفيا مع رئيس المجلس العسكري الانتقالي برهان، حاثاً إياه على التسريع لنقل السلطة إلى كيان مدني.
أما على الجانب الأوروبي فقد التقت السفيرة الفرنسية بالخرطوم، بالمعتصمين حيث شكرت المعتصمين وأضافت (شعرنا بنسائم الحرية التي اجتاحت هذا المكان)، وأثارت إعجابا بمستوى التنظيم وقالت (إن طاقة وعزم المتظاهرين لبناء سودان جديد أكثر ديمقراطية وانفتاحا وشمولاً يدل على أن صفحة من تاريخ السودان طويت)، وأردفت قائلة (تقف فرنسا إلى جانب الشعب السوداني). والسفير البريطاني الذي كان يجوب مكان الاعتصام رافعا علم السودان عبر عن إعجابه عن مستوى التنظيم. وقد تواترت زيارات السفراء الأوروبيين تترى على مكان الاعتصام فزاره السفير الألماني ووفد من السفارة الإيطالية وكذا السفيرة الهولندية والسفير السويدي. أما الاتحاد الأوروبي فقد استبدل باحتفاله السنوي باليوم الأوروبي الذي يوافق التاسع من أيار/مايو استبدل به الإفطار مع المعتصمين في ساحة الاعتصام حول القيادة العسكرية السودانية، وأشار تصريح للبعثة نشر على صفحتها على الفيس بوك أنهم أرادوا التواصل مع شعب السودان في سعيه لتحقيق الحرية والسلام والعدالة. ونقل عن سفير الاتحاد الأوروبي جان ميشيل خلال حفل الإفطار (تشرفت بمقابلة العديد من الشباب من جميع أنحاء السودان... وسيواصل الاتحاد الأوروبي دعم تلك القيم، قيم الحرية والعدالة والسلام). كما أصدر الاتحاد بيانا باسم المتحدث الرسمي للتحاور حول الوضع في السودان (يراقب الاتحاد الأوروبي الوضع في السودان عن كثب).
هذا على الصعيد الدولي، أما على الصعيد الإقليمي فإن التقرير الصادر عن صحيفة نيويورك تايمز في 27/4/2019م، يوضح بجلاء التدخل الإقليمي لاحتواء الحراك السوداني. فقد أوضحت نيويورك تايمز في تقريرها من الخرطوم أن أمريكا التي وصفتها بأنها كانت غارقة في الشؤون السودانية إلى درجة أنها كانت العامل الأساس في تشكيل علاقة الخرطوم بالعالم الخارجي، بقيت الآن في لحظات حرجة تشكل فيها مستقبل السودان ويترك مصيره للرياض وأبو ظبي، وسردت الصحيفة خطوات أبو ظبي والرياض لمنع أي تحول للحكم الديمقراطي، ومن بين ذلك تقديم معونات نقدية وسلعية وطبية قيمتها ثلاثة مليارات دولار، وقد ذكر الدبلوماسي الأمريكي الأسبق بالسودان أن أمريكا كانت تستجيب في مثل هذه الحالة في السودان، ولكن موقفها الآن أضعف من الاتحاد الأوروبي، وقالت لنيويورك تايمز إن نهاية المبادرة تجاه السودان التقطته السعودية والإمارات كاشفاً عن أن خمس قوى سودانية معارضة بينها عدد من الحركات المسلحة زارت السودان، وقد نسبت إلى مسؤولة سابقة في إدارة أوباما أن اختطاف ثورة السودان بالأجندة الأجنبية لن يكون مخيباً للأحلام فقط، بل سيكون أمراً سيئا لعدم استقرار واسع وعميق بالمنطقة. والجدير بالذكر في هذا الصدد، أن الرئيس السيسي اتصل برئيس المجلس العسكري الانتقالي، وأرسل وفدا رفيعاً إلى السودان منهم عباس كامل رئيس الاستخبارات.
أما داخلياً فحدث ولا حرج، فإن القطار الذي حمل إعلان قوى الحرية والتغيير، ذلك الشتات الواسع إلى التوحد نحو تغيير النظام لن يلبث إلا قليلاً ثم يوصلهم إلى أولى محطات الاختلاف، وذلك قبل تسلم السلطة، وسيكون بعدها كذلك أشد وأعنف. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن القوى التي توحدت باسم التيار الإسلامي ستكون هي الأخرى في حالة صراع مع قوى التغيير والحرية، مما يوجد مناخاً خصباً للتدخلات الدولية لتحقيق الأجندة الخفية والتي هي مواجهة بالكامل لإجهاض الثورة.
إن الخروج من هذا الاستقطاب والاستقطاب المضاد، وتفويت الفرصة على اللاعبين الدوليين، إنما يكون بالالتفاف حول فكرة جامعة يعتقد الناس بصحتها وصلاحها، ولا أحسب أن هناك غير الإسلام يصلح لهذا.
رأيك في الموضوع