بتاريخ 6/7/1973م نشرت جريدة النهار في بيروت مقابلة مع رئيس الجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة جاء فيها ما نصه (أن إمارة شرقي الأردن خلقتها بريطانيا لإرضاء الأمير عبد الله.. وأن شرقي الأردن قضية مصطنعة، وأن فلسطين هي الأصل والأساس.. وما على الملك حسين سوى أن يخضع لحكم الشعب في ظل نظام ديمقراطي يقرر مصير البلد بدلا من أن يحدث له ما حدث لجده وابن عمه الملك فيصل في انتفاضات غير منتظرة).
وكان هذا التصريح في وقتها غريبا وعلى أثره قابل السفير الأردني في تونس الحبيب بورقيبة يوم الأربعاء 11/7/1973م في تونس وأكد له بورقيبة أن التصريحات التي أدلى بها إلى جريدة النهار قبل أيام وجاء فيها أن الأردن كيان مصطنع، وأن فلسطين هي الأصل ولها وجود تاريخي، هذه التصريحات صحيحة وتعبر عن موقفه، أي موقف بورقيبة. وأكد موفد النهار الذي أجرى المقابلة في جنيف أنه نقل بأمانة، وأن ما نشر في النهار لا يستدعي نفيا. إلا أن هذه المقابلة بين السفير الأردني في تونس وبورقيبة قد ظلت مكتومة حتى يوم الجمعة 13/7 حيث نشرت بعضا منها وكالة الأنباء التونسية الرسمية، ثم أخذتها عنها وكالات الأنباء.
فهل تصريحات بورقيبة شخصية، وما هي دلالاتها ووقتها؟ ولتوضيح الأمر نبيّن التالي:
إن شرق الأردن هو كيان مصطنع حقيقة، فإن تشرشل حين كان في مصر عقب الحرب العالمية الأولى وجاء إلى القدس، واجتمع بالأمير عبد الله ليثنيه عن محاولة استرجاع سوريا من الفرنسيين، أوجد له إمارة شرق الأردن ليرضيه بوظيفة حاكم. ثم تطورت الأمور بعد الحرب العالمية الثانية. وحين النظر في أمر يهود في فلسطين اتخذت شرق الأردن أداة إنجليزية من أجل استعمال موضوع يهود في فلسطين، فكان ما كان منذ سنة 1947، لذلك فإن شرق الأردن نفسه لم يوجد ليكون دولة بل منعت عنه مقومات الدولة وظل قائما على المساعدات البريطانية ولما اكتشفت فيه الثروات منع من استخراجها، فهو نشأ كمخفر لحماية يهود في فلسطين، ولا يزال حتى الآن كذلك. فهل سيبقى الأردن مخفرا ليهود؟ وقد أدركت أمريكا هذه المسألة الحساسة أي الدور الوظيفي للكيان الأردني ومسألة احتياج يهود للحماية وسيأتي بحثها لاحقا بإذن الله.
لقد تطور شرق الأردن بعد سنة 1948 وتدفقت عليه الأموال بمختلف الأسماء ومن مختلف الجهات، من أمريكا وألمانيا وإنجلترا، ومن السعودية والكويت وإمارات الخليج، وأوجدت له مكانة سياسية فلما حلت سنة 1964 ونفد صبر يهود على العيش في هذه الأجواء المحمومة، والحالات الأمنية، أيقن الإنجليز أن إنشاء دولة يهودية في فلسطين أمر مستحيل، ففكروا في جعل فلسطين كلبنان دولة علمانية شكلا وأسلوبا، ويهودية فعلا كما أن لبنان دولة نصرانية فعلا. فوضعوا مشروع الدولة العلمانية، وجعلوا بورقيبة الأداة الفعالة للتبشير والعمل لتنفيذه، ثم أنشأوا منظمات عسكرية تعمل بين العرب لتنفيذ المشروع باسم مقاومة كيان يهود، وظلت الحال كذلك حتى سنة 1973، أي حتى مشروع بورقيبة الجديد.
لقد كان دور شرق الأردن دور الكيان العازل، وما ضم الضفة الغربية إليه إلا أمر مؤقت من أجل اتخاذه وسيلة لمشاريع الإنجليز في حماية يهود في فلسطين. وكذلك كان تسليمها ليهود في مسرحية سنة 1967 التي يسمونها حربا، هو لاتخاذه أداة لمشاريع الإنجليز هذه. وظلت الحال كذلك حتى سنة 1973، إلا أن المشروع الأمريكي في الدولة الفلسطينية لحماية كيان يهود قد أثار الخوف على شرق الأردن، فمن محاولة الفدائيين لقلب نظام الحكم في الأردن سنة 1970م مما نتج عنه مذابح أيلول الأسود، إلى تبني أمريكا للأردن بمده بالسلاح وتجهيز جيشه، إلى جانب ما تمده به من مال، إلى اتفاق أمريكا وروسيا على تنفيذ المشروع الأمريكي ولو بالقوة. يضاف إلى ذلك وقوف الشعب كله في الأردن بما في ذلك القبائل الأردنية موقف البغض والريبة من الحكم في الأردن، كل ذلك قد أثار مخاوف الإنجليز من قدرتهم على إبقاء الأردن في حالة مخفر دائم، ومن شكهم في إمكانية استمرار الكيان الأردني الذي يقوم بدور الدولة العازلة. لذلك فكروا في معالجة موضوع شرق الأردن. وظهر ذلك في زيارة اللورد بالنيل وزير الدولة للشؤون الخارجية في إنجلترا إلى الأردن ومصر، ثم في زيارات مسؤولين إنجليز لكيان يهود والأردن. ومع مرض الملك حسين الخطير آنذاك الذي أدخل فيه إلى المستشفى، فإن الإنجليز حاولوا إيجاد خلف له، فلم يستطيعوا إيجاد الشخصية التي تستطيع القيام بالدور الذي يقوم به الملك حسين لا في العائلة المالكة - آنذاك - ولا في الأردنيين أو الفلسطينيين. لذلك فكروا بإعادة النظر في دور شرق الأردن، فكانت زيارة اللورد بالنيل إلى كيان يهود واصطنع ذلك الخلاف في موضوع زيارته وفي مناقشته لغولدا مائير في شأن حرب سنة 1967.
فالحوادث والوقائع كلها تشير إلى أن أمر شرق الأردن كان وما زال موضع بحث لدولة لم تنشأ نشأة طبيعية، وليس معنى هذا إزالة الكيان وإنما تغيير الكيان الأردني إلى كيان فلسطيني يشترك فيه أهل الأردن وفلسطين، وبات أهل الأردن اليوم يدركون حقيقة الأمر والتاريخ والدور الوظيفي للكيان الأردني وأن تعبيرات صدرت اليوم عن الدولة الهاشمية لم تأت من فراغ، وأن أهل الضفتين كانوا ضحية مؤامرات كبرى وتغيّب للفهم السياسي الحقيقي والوعي له بمذابح داخلية مؤلمة كانت خسارة فيها للمسلمين إرضاء للغرب وعملائه وهم متفقون على الدور والمشروع الغربي وكل منهم تمترس خلف وطنية مزعومة بغيضة نالت من المسلمين دماءهم وأبناءهم وقضية فلسطين هي الخاسر الأكبر بعد غضب الله ومخالفة أحكامه بسفك دم المسلم والتعصب لحدود وضعتها بريطانيا المجرمة.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع