بعد أن استعرضنا الخطتين الأمريكية والبريطانية لحل قضية فلسطين، وكذلك دور بعض أدوات كلتا الدولتين. سنستعرض دور الأدوات لتصفية قضية فلسطين بشيء من التفصيل؛ فبعد أن وضعت أمريكا مشروعها لتصفيتها نهائيا وأخذت موافقة مصر والسعودية والعراق عليه آنذاك وحملتها على العمل له، وهي ضامنة قبول لبنان به، ولم يبق أمامها إلا الأردن لأنه كان يمثل الخطة البريطانية بقوة كبيرة جدا، فبدأت بالضغط المتتالي عليه لمحاولة إخضاعه وأخذ موافقته عليه بالإغراء والتهديد، وحازت على موافقة أهل فلسطين بأخذ موافقة الهيئة الوحيدة التي تعتبر رسميا ممثلة لهم، وهذا طبعا قبل 1960، وبإيجاد رأي عام بقبوله لدى سكان الضفة الغربية ولدى أكثر اللاجئين.
أما تفاصيل هذا المشروع الأمريكي فإنه يتلخص في إقامة كيان فلسطيني وتدويل القدس، وحل مشكلة اللاجئين بإعادة قسم ضئيل منهم إلى بلادهم تحت حكم يهود، وتعويض الأكثرية الساحقة منهم وتوطينهم خارج المنطقة المغتصبة إما في القسم الباقي من فلسطين وإما في سائر البلاد العربية. وسلكت للوصول إلى هذا الحل أخبث الطرق. فقد فرضت على الدول العربية التابعة لها مصر والسعودية والعراق، بالتهديد والوعيد وبالإغراء، بأن كيان يهود وجد ليبقى، وأنهم أعجز من أن يزيلوه فيجب أن يهضموه ويسلموا بوجوده، وأنهم حتى يتخلصوا من المسؤولية ما عليهم إلا أن يرفعوا أيديهم عن القضية وتحويلها لأهل فلسطين يتحملون مسؤولياتها وحصر الأمر بأهل فلسطين، واتخذت مشكلة اللاجئين الوسيلة العملية لتنفيذ هذا الحل وجعلت الإغراء بالمال وبالحكم والسلطان في الضفة الغربية أي القسم الباقي من فلسطين الطعم الذي تجذب إليه الفلسطينيين لقبول الكيان الفلسطيني والعمل له، كما جعلت اليأس من الدول العربية المبرر لأهل فلسطين أمام أنفسهم وأمام بعضهم لاستعادة القضية إليهم ليتولوا هم حلها والدفاع عنها، وأحاطت هذا كله بدعاية خبيثة مؤثرة سخرت لها الصحف والإذاعات في جميع الدول العربية بألفاظ إنشائية مضللة بأن قضية فلسطين هي لأهلها فقط ولا علاقة لأحد بها فأخرجتها عن أصلها من كونها قضية إسلامية إلى قضية خاصة بأهل فلسطين فقط، وسيكون دور الدول العربية المساعدة لاتخاذ القرار، وأن الكيان الفلسطيني هو خطوة أولى لاسترجاع القسم المغتصب الباقي من فلسطين، وهكذا وببث هذه التضليلات جرت المحاولات لإيجاد الرأي العام لهذا الحل والتمهيد للقيام بتنفيذه.
ولم تقتصر أمريكا على ذلك بل انتقلت في مشروعها من دور العرض والمناقشة إلى دور السير والتنفيذ منذ سنة 1959، وسارت فيه خطوات عملية، ولا تزال سائرة ضمن خطتها لحل الدولتين حتى الآن وإن أدخلت بعض التفاصيل الجزئية نتيجة تعنت يهود وتنازلت عن بعض لكنها تبقى ضمن حل الدولتين، ويمكن تلخيص خطواتها في هذا المشروع آنذاك بما يلي:
لقد وضع هذا المشروع في أواخر حكم أيزنهاور، وأوكل إلى جمال عبد الناصر عميل أمريكا القوي أن يباشر البدء بتنفيذه بإقامة الكيان الفلسطيني، وعهد إلى عبد الكريم قاسم أن يسند عبد الناصر فيه بالدعوة إلى الجمهورية الفلسطينية وتجنيد أهل فلسطين لينقذوا بلادهم، وأوعز إلى سعود أن يساعد في ذلك بتبني هذا المشروع وبالاتصال بحسين ملك الأردن لجره للسير في المشروع لعلمهم بما يمثله الأردن، وكان ذلك سنة 1959، فسار عبد الناصر في العمل لإقامة الكيان الفلسطيني بالدعوة له، لإيجاد الاتحاد القومي للفلسطينيين في غزة وفي سوريا للعمل لإيجاد هذا الكيان، وأخذت الصحف ومحطات الإذاعة والمعلقون السياسيون في الجمهورية العربية بإقليميها حينئذ مصر وسوريا تدعو له وكذلك صحف لبنان السائرة في ركاب عبد الناصر أخذت تدعو له وتبنته السعودية علنا وعرضته على الجامعة العربية في اجتماعها الذي عقدته في القاهرة سنة 1959. غير أن الأردن في ذلك الاجتماع عارضه بشدة، وعارض كذلك تدويل القدس آنذاك ليس حماية للمقدسات وفلسطين بل لأنه يسير وفق المخطط الإنجليزي، أما تدويل القدس فلم يعرض على الجامعة وكان العمل له بين السياسيين، وكانت تجري محاولات لإقناع الناس به ولكن الكيان الفلسطيني صار الشغل الشاغل للدول العربية ولأهل فلسطين. ووضعت قضية اللاجئين تحت المناقشة في الجامعة ولدى الفلسطينيين، وكان التسليم في أساس البحث فيها بأنها يجب أن تحل بوصفها مشكلة لاجئين فقط لا بوصف القضية كقضية لفلسطين غير قابلة للتجزئة لا في البحث ولا في العمل. وكان الخلاف هو هل يخير اللاجئون بين العودة والتعويض أم يرجع قسم منهم ويعوّض القسم الباقي، والبحث في قبول كيان يهود وعدم قبوله وأمريكا هي الحكم وهي محل الأمل بالضغط على يهود، ولهذا سارت الأمور في مشكلة اللاجئين بالاتجاه الذي تبتغيه أمريكا ونحو ما هو مخطط في المشروع الأمريكي.
وكان نجاح أمريكا مفروض الحصول منذ سنة 1959 لولا وقوف الأردن (كقاعدة الإنجليز) وقوفا حازما في وجه تدويل القدس والكيان الفلسطيني ومعارضته لهما معارضة شديدة وعنيدة بإيعاز من الإنجليز بشكل واضح وكبير، وهنا بدأ الضغط الأمريكي على الأردن وبدأت المناورات الأمريكية، فأخذ عبد الناصر يبذل جهودا كبيرة للتأثير على ملك الأردن والتعرض له ومحاولة الانقلاب عليه والتدخل بشؤونه واستمالة أهل فلسطين في الأردن، وأخذت أمريكا تقوم بالضغط والمناورات، وعقدت الجامعة العربية اجتماع شتورة في لبنان سنة 1960، وكان موسى ناصر وزير الخارجية حينئذ رئيس الوفد الأردني وكان معه وصفي التل عضوا في الوفد لمراقبته بالرغم من أنه كان موظفا ولم يكن سياسيا وليس له منصب سياسي آنذاك. وتعددت اجتماعات شتورة والأردن في أشد المعارضة للكيان الفلسطيني، وأثناء هذه الاجتماعات كان الضغط الأمريكي على هزاع المجالي رئيس الوزراء ليوافق على الكيان الفلسطيني وليرسل تعليماته لوفد الأردن في شتورة بالموافقة، فأثر الضغط على هزاع، ووافق مؤتمر شتورة على الكيان الفلسطيني في اللحظة الأخيرة بالإجماع بما في ذلك وفد الأردن بناء على تعليمات وصلته برسالة مستعجلة من رئيسه هزاع رئيس الوزراء. غير أن هذه الموافقة لم تفد بشيء فقد تمت تصفية هزاع المجالي نتيجة موافقته على المشروع الأمريكي، وهذا يدلل على حجم وقوة الصراع الذي وصل حد القتل والتصفية للخروج عن الخط المرسوم ورجع الأردن عن موافقته، وعاد يبدي أشد المعارضة للكيان الفلسطيني وتدويل القدس، وصار بعض السياسيين في الأردن يفضحون أمريكا في هذا المشروع، فإن موسى ناصر الذي كان رئيس الوفد في شتورة ووافق على الكيان الفلسطيني قال في حديث له "إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قدمت اقتراحا بإنشاء الكيان الفلسطيني فتبنته السعودية وعرضته على الجامعة العربية".
وهكذا انتهت أيام حكم أيزنهاور والكيان الفلسطيني ما يزال حبرا على ورق رغم مقررات شتورة، والمشروع الأمريكي لم يسر ولا خطوة رغم موافقة جميع الدول العربية عليه ما عدا الأردن الذي كان رأس الحربة ومن معه من عملاء الإنجليز في الوقوف في وجه المشروع الأمريكي، منهم بورقيبة رئيس تونس والذي سيكون له دور قادم لصالح المشروع الإنجليزي لعلنا نأتي على ذكره.
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله (أبو دجانة)
رأيك في الموضوع