تطالعنا الأنباء كل يوم عن كارثة هنا، أو مصيبة هناك. وكلما حلت بنا فتنة جديدة (ترحَّمنا) على أختها، والمسلمون هم الضحايا، تهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، وتزهق أنفسهم، ويتعاظم حجم العداء والكراهية بين إخوة الأمس! حتى ما عادت البلاد على سعتها تكفي أهلها! وما ذاك إلا لخيانة حكامنا، وتبعيتهم المفرطة للكفار على تنوعهم، فجعلوا منهم مستشارين وأصدقاء يطلعونهم على أسرار البلد، لا يخفون عنهم شيئا، حبا بهم وولاء لهم متناسين تحذير ربهم سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾.
وهكذا استمر بارزاني رئيس كردستان في غيه، وأصر على إجراء (الاستفتاء) على انفصال الإقليم في موعده، رغم إطباق العالم محليا ودوليا على رفضه، وعدم الاعتراف بما يترتب عليه. لكنه مال لرأي بريطانيا التي زينت له ذلك، لترد الصفعة لأمريكا التي تسببت في حصار عميلتها قطر. فما كانت النتيجة إلا أنه أغضب أمريكا، فأوحت لعملائها في تركيا وإيران بإغلاق المنافذ التجارية مع محيطها، وأوعزت لحكومة بغداد للعزف على أنغام دستور (بريمر)، وبات الأتباع والأشياع والمنتفعون يظهرون عظيم الحرص على وحدة تراب العراق..! ويلقون باللائمة على بارزاني حتى تنكر له المقربون منه والشركاء..! وارجعوا إن شئتم لتصريحات المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر نويرت إذ قالت: إن أمريكا أصيبت بـ"خيبة أمل عميقة" بسبب الاستفتاء الذي أجري، وفي تحد للمجتمع الدولي بأسره، وأردفت قائلة: إن الاستفتاء أحادي الجانب "سيزيد من انعدام الاستقرار والمصاعب" في الإقليم وسكانه..! "وسيعقّد بدرجة كبيرة العلاقات بين حكومة الإقليم والحكومة العراقية والدول المجاورة". (إيلاف ، أ. ف. ب).
وتبعا لذلك انطلقت جحافل القوات الأمنية من بغداد بصنوفها الجيش والشرطة ومكافحة (الإرهاب)، والحشد الشعبي المدعوم إيرانيا وبالتعاون مع حزب طالباني الذين تعاون أتباعه مع القوات الاتحادية... وما هي إلا أن فرض الجيش كامل السيطرة على محافظة كركوك، واضعا اليد على مركزها ومطارها، ومنتزعا آبار النفط كاملة، وأغلقت الأجواء على مطارات الإقليم، بالتعاون مع تركيا وإيران... ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، وتلاشت أحلام بارزاني وزبانيته. ثم توجهت قوات أمنية مماثلة لانتزاع ما كان يعرف بالمناطق المتنازع عليها في الموصل وديالى وصلاح الدين. وبناء على ما سلف، جاءت دعوة رئيس الوزراء العراقي العبادي للإقليم للجلوس على طاولة الحوار، قائلا: "نحتاج أن نتفاهم على أساس سقف الدستور، وعلى أساس الشراكة في وطن واحد". ومؤكدا "أن الاستفتاء الذي أجرته سلطات الإقليم للانفصال عن العراق انتهى، وأصبح ماضيا، وانتهت نتائجه". فما كان من حكومة الإقليم - بعد أن أسقط في أيديها - إلا أن ردت بالإيجاب والترحيب في بيان لهم جاء فيه: أن "مجلس وزراء الإقليم يرحب بالمبادرة، لبدء الحوار من أجل حل القضايا العالقة وفق الدستور، وضمن مبدئي الشراكة والتوافق". (سكاي نيوز عربي).
ثم صارت أنباء تجميد نتائج الاستفتاء تتوارد، حتى أعلن نائب رئيس الجمهورية النجيفي - بعد مباحثات مع بارزاني - أن الأخير أبدى رغبته بتجميد الاستفتاء مقابل رفع العقوبات عن الإقليم والدخول في الحوار. (العربية). وهنا لا بد من القول: إن تجميد نتائج الاستفتاء، ما هي إلا مناورة أمريكية على طريقة حلول الوسط التي دأب عليها الرأسماليون، في تمييع الأمور واللعب على عامل الزمن. وإلا كان بإمكانها منع بارزاني من المضي في إجراءات الاستفتاء، لكن خبثها يأبى إلا الإصرار على تقسيم العراق ولكن حين تواتي الظروف، خيب الله ظنهم. ومن تداعيات التجميد أن تعالت الأصوات من كل صوب بضرورة استقالة بارزاني فأعلنها صريحة رئيس برلمانه يوسف محمد تضمنت مطالبته لرئيس الإقليم بالاستقالة، ودعاه فيها للتنحي عن السلطة، وأنه سيقدم خدمة كبيرة لشعبه عند استقالته من منصبه. وأضاف أن الشعب الكردي بات أسيرا لنخبة سياسية تعمل للسيطرة على ثروات الوطن من أجل توسيع سلطتها، لافتا إلى أن هذه النخبة تتاجر بتضحيات الشعب ودماء شهدائه حسب تعبيره. (العربية). ثم تبعه حسين إسماعيل عضو الجماعة الإسلامية متهما بارزاني بسرقة "خيرات كردستان من النفط والسياحة طيلة السنوات السابقة لصالح عائلته وحزبه، بينما غالبية موظفي الإقليم من دون رواتب". (شبكة أخبار العراق)، ودعا برهم صالح القيادي في حزب طالباني إلى تشكيل حكومة انتقالية في كردستان، لإجراء الحوار مع بغداد، وأن الوضع الحالي هو نتاج لمحاولات الفاسدين لتغطية النهب والسلب باسم كركوك والقومية الكردية. (إرم نيوز).
ولا شك أن عمليات عسكرية واسعة كالتي حصلت في كركوك لا بد أن ترافقها أعمال عنف وقتل ونهب كنتيجة حتمية في مجتمع عُبِّئ بأفكار العرقية والطائفية. فقالت الأمم المتحدة إنها تلقت تقارير بحدوث أعمال تدمير ونهب ونزوح قسري لمدنيين غالبيتهم من الكرد في محافظة كركوك، منها "ادعاءات بحرق نحو 150 منزلا في قضاء طوز خورماتو من قبل جماعات مسلحة. وشهدت المنطقة الصناعية في كركوك معارك شرسة أسفرت عن مقتل 12 مسلحا من الحشد الشعبي وتدمير 7 آليات عسكرية تابعة له، فيما تحشد آلاف المتطوعين داخل المحافظة لدعم البيشمركة ومنع تقدم القوات المهاجمة. وتحدثت مصادر كردية عن مقتل 10 مقاتلين من البيشمركة وإصابة 27 آخرين بجروح. وأكد مجلس أمن الإقليم أن القوات التي تهاجم البيشمركة هي قوات إيرانية بأسلحة أمريكية. (روداو الكردية). مع نزوح عشرات الآلاف من الأكراد فروا من كركوك، وناشد محافظ أربيل المجتمع الدولي لإغاثة النازحين. (مصراوي، وروداو).
وقبل الختام، لا بد أن أعرج على مفارقتين أفرزتهما أحداث كركوك، تتمثل الأولى بفرص ارتفاع أسهم العبادي للفوز بولاية ثانية جراء ما أحرز من نصر على تنظيم الدولة إلى جانب أحداث كركوك، ما يجعل منه (بطلا) وإن كان صناعة أمريكية..! وأما الثانية فتمثلت في سلوك منافسه المالكي الذي بات يشعر بالخطر على مستقبله، فعمد إلى التشويش، بتجيير (النصر) لصالح إيران، واستخدام سطوته لدى مجلس القضاء الأعلى في العراق، فأصدر المجلس أوامر باعتقال كوسرت رسول نائب رئيس حكومة الإقليم لوصفه القوات العراقية بـ"المحتلة"، بالإضافة لرئيس لجنة الانتخابات والاستفتاء واثنين من معاونيه. (المسلة، وكالات)، ما يعقد أجواء الحوار بين الجانبين.
اللهم أنجز لنا ما وعدتنا من النصر والتمكين، إنك على كل شيء قدير.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع