أنهى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون جولة خارجية شملت عدة دول عربية وآسيوية ترجم من خلالها السياسات الخارجية الأمريكية التي اعتمدتها إدارة ترامب لمستقبل هذه الدول كان عُنوانها التدخل السافر في تلك الدول وفرض أجندتها عليها.
ومن تتبع المواقف والتصريحات التي أدلى بها تيلرسون في زيارته يمكن أنْ نستشف استراتيجية هيمنة واضحة تُباشرها أمريكا في الدول التي زارها.
فبالنسبة للأزمة الخليجية تبيّن أنّ الموقف الأمريكي بخصوصها يهدف إلى إطالتها وإشغال المنطقة بها لمدة غير محدودة بهدف ابتزاز تلك الدول بشكلٍ عام، وإضعاف تأثير نفوذ دولة قطر بشكلٍ خاص، وإشغالها بنفسها، وعدم تمكينها من التشويش على السياسات الأمريكية بتوجيه بريطانيا لها، لا سيما في مناطق الصراع الساخنة في المنطقة كليبيا ودارفور بالسودان وغيرهما.
فالمهم بالنسبة لأمريكا هو استمرار تعاون جميع هذه الدول في محاربة الإسلام وليس مهماً عندها استمرار الأزمة فيما بينها، فقال تيلرسون في ختام جولته: "إنّ جميع شركاء بلاده في الخليج يبذلون جهودا متجددة في مجال مكافحة (الإرهاب)"، وشدّد على: "ضرورة توسيع هذه الجهود عبر التعاون والتنسيق بشكل أكبر، فضلا عن تبادل المعلومات بين جميع الشركاء".
وكان تيلرسون قبيل الزيارة قد عبّر في مقابلة مع وكالة بلومبيرغ الأمريكية عن تشاؤمه بشأن قرب حل الأزمة، وحمّل دول الحصار الأربع وهي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) مسؤولية استمرارها، فقال: "إنّ الأمر الآن متوقّف على الدول الأربع، قطر كانت واضحة جداً بهذا الشأن، إنّها مستعدة للحوار"،وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر نويرت: "إن تيلرسون سيشجع الدول على الجلوس للتحاور"، ثمّ عقّبت بقولها: "لا يمكننا إجبارهم على شيء لا يريدون فعله".
وعندما وصل تيلرسون السعودية أكّد على موقفه المُسبق هذافقال بأنّه: "لم يلحظ بعد اجتماعاته في الرياض وجود أي مؤشر قوي على أن الأطراف مستعدة للدخول في حوار لحل الأزمة الخليجية، وأنّ واشنطن لا يمكنها فرض حوار على أشخاص ليسوا مستعدين له"، وادّعى أنّ واشنطن لا تستطيع فرض حل للأزمة.
وبالإضافة إلى تعطيل المُصالحة سعى تيلرسون لتحقيق أمرين مُهمّين آخرين هما:
أولاً: ضخ أموال سعودية للعراق لمُساعدته في إعادة الإعمار بعد الانتهاء من قتال تنظيم الدولة، وذلك عبر آلية تشكيل مجلس تنسيق سياسي سعودي عراقي لمتابعة تطبيق السياسات الأمريكية، فقد حثّ تيلرسون السعودية بالفعل على تقديم المساعدة في إعادة إعمار العراق، فقال: "إنّ العراقيين يريدون اقتصادا آمنا ومستقرا ويريدون تطوير قدرات بلادهم لتلبية احتياجات مواطنيهم"، ورعى تيلرسون بنفسه لقاء الملك سلمان برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في الرياض، وشارك الثلاثة في أول جلسة لمجلس التنسيق السعودي العراقي الجديد، وأعلنت السعودية على إثر تأسيس هذا المجلس عن خطط تشييد طرق برية جديدة بجنوب العراق لتسهيل حركة البضائع عبر الحدود، كما بدأت شركات سعودية تعمل بمجالات البتروكيميائيات والزراعة للاستثمار بالعراق.
ثانياً: دعا تيلرسون المليشيات العراقية المدعومة من إيران للعودة إلى ديارها، ومغادرة الأجانب البلاد وترك العراقيين يعيدون بناء بلدهم، وذلك في سعي منه لإبقاء حالة التوتر في العلاقات السعودية الإيرانية لتحقيق أقصى قدر من المصالح الأمريكية المستديمة في الخليج، والمُتمثّلة في استمرار جعل إيران فزّاعة دائمة لدول الخليج، ولتحذير الأوروبيين من جهة أخرى من الاستثمار في إيران، فقد أوردت صحيفة نيويورك تايمز أن تيلرسون حذّر الأوروبيين من الاستثمار في قطاعات إيرانية محددة، في الوقت الذي بدأت فيه واشنطن بالتلويح بفكرة الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات على إيران، وبمعنى آخر إعادة فرضها على الدول الأوروبية.
وبالرغم من أنّه هاجم المليشيات التي تدعمها إيران ودعاها للعودة إلى ديارها، وبالرغم من أنّه حرّض ضد إيران إلا أنّ تيلرسون اعترف بصراحة بدورها المحوري في المنطقة فقال: "يجب أن نكون واقعيين وندرك ونقر بأن العراق له حدود طويلة جدا مع إيران، وهناك علاقات بينهما ترجع إلى قرون، ولن نعمل على قطع كل العلاقات بين هاتين الدولتين، هناك علاقات مشروعة، اقتصادية وتجارية وأشياء مثل ذلك، يجب أن تستمر"، وهذا هو الموقف الأمريكي الحقيقي من إيران وهو تعاون العراق معها على نطاق واسع لخدمة استراتيجية أمريكا في المنطقة، بينما تصريحاته المغايِرة ما هي إلا لذر الرماد في العيون.
وأمّا بخصوص المشكلة الكردية فأعاد تيلرسون طرح الرؤية الأمريكية المعروفة فقال: "الولايات المتحدة مستعدة لمساعدة بغداد وأربيل لرسم مسار إيجابي لعراق فيدرالي موحد وديمقراطي بالوسائل السلمية، أدعو الطرفين إلى تجنب الاشتباكات بين القوات العراقية والبيشمركة، وأدعو رئيس الوزراء حيدر العبادي لقبول دعوة أربيل للحوار بناء على الدستور العراقي"، والحوار الذي يقصده هنا هو ذلك الحوار الذي يفضي إلى قيام دولة عراقية فدرالية وفقاً للدستور العراقي الذي وضعته أمريكا.
وفي أفغانستان التقى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بالرئيس الأفغاني أشرف غاني وبرئيس وزرائه عبد الله عبد الله وطمأنهما بأنّ إدارة ترامب لن تتخلى عن حماية نظامي حكمهما من هجمات حركة طالبان، وأنّ القوات الأمريكية ستبقى في أفغانستان، وأنّها لن تتخلّى عن عملائها، فقال: "من الواضح أنّ علينا مواصلة القتال ضد حركة طالبان وضد آخرين لكي يدركوا أنهم لن يحققوا أبدا انتصارا عسكريا".
وفي المحطّة الباكستانية التقى تيلرسون رئيس الوزراء شاهد خاقان عباسي وقائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا، وأكّدت السفارة الأمريكية في إسلام أباد في بيان لها أنّ: "وزير الخارجية كرّر رسالة الرئيس ترامب أنه يتعين على باكستان زيادة جهودها للقضاء على (الإرهابيين) الذين يعيثون فسادا في البلاد"، وكان الرئيس الأمريكي ترامب قد اتهم الدولة الباكستانية بأنها تمنح ملاذا (للإرهابيين)،وأعاد تيلرسون التأكيد على رؤية إدارة ترامب التي تطالب باكستان بفعل المزيد لمحاربة المنظمات (الإرهابية).
لقد لوحظ من خلال جولة تيلرسون هذه أنّ أمريكا تتصرف مع البلدان الإسلامية بطريقة فرض الأوامر وكثرة الطلبات، واستمرار الاتهامات، فتُحوّل قادتها العملاء إلى مُجرد أجراء يقومون بأعمال وظيفية، بينما تتعامل مع غير المُسلمين من عُملائها باعتبارهم شركاء استراتيجيين كما فعلت مع الهند غريمة الباكستان وعدوّتها اللدود.
ففي محطته الأخيرة الهند التقى تيلرسون كبار المسؤولين فيها وشرح لهم الخطّة الأمريكية تجاه منطقة جنوب آسيا وبيّن لهم أنّ الهند ستلعب فيها دوراً إقليمياً محورياً في مواجهة الصين، وأكّد على عمق التعاون الأمريكي مع الهند،واعتبارها شريكاً مهماً في مواجهة النفوذ الصيني (السلبي) المُتصاعد في آسيا.
رأيك في الموضوع