قالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية نويرت "الولايات المتحدة لا ترغب في التفريط بعلاقاتها المتميزة مع تركيا، وتسعى لحل الأزمة الأخيرة المتعلقة بتعليق منح تأشيرة الدخول بأقرب وقت ممكن... تركيا تعتبر من أهم حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط وداخل الناتو. ويبذل الطرفان جهودا مضاعفة لإنهاء الأزمة الحاصلة بينهما، وقد بدأت تركيا بالتعامل الإيجابي مع موظفي القنصلية الأمريكية الموقوفين لديها...". فهذا التصريح يجيب نوعا ما عن هذا التساؤل.
وتأتي هذه الأزمة عقب اعتقال تركيا يوم 8/10/2017 لموظف تركي يعمل في القنصلية الأمريكية بإسطنبول منذ 35 عاما بتهمة الانتماء لجماعة غولن التي تتهم بتدبير محاولة انقلاب 15 تموز 2016. فأوقفت أمريكا منح التأشيرات للأتراك الراغبين بالسفر إليها، وردت سفارة تركيا وقنصلياتها في أمريكا بوقف منح التأشيرات للأمريكيين.
إن أردوغان يلعب لعبة تنطلي على الكثير من غير الواعين سياسيا، إذ جعل صراعه مع شخص السفير الأمريكي متهما إياه أنه "يقوم باتخاذ إجراءات من تلقاء نفسه... وأنه تسبب في أزمة التأشيرة... ومن غير المقبول أن تضحي واشنطن بحليف استراتيجي مثل تركيا من أجل سفير أرعن"، ولم يجعل صراعه مع أمريكا التي يواليها، وهو يعرف أن مهمة السفير في تركيا ستنتهي قريبا، حيث قرر ترامب يوم 21/7/2017 نقله من تركيا إلى أفغانستان. فلم يتهم الدولة الأمريكية وإنما اتهم سفيرها! وهو يعلن ولاءه لأمريكا بوصفها الحليف الاستراتيجي وهي رأس الكفر وعدوة الإسلام والمسلمين.
فهل يعقل أن يكون هناك توتر أو قطيعة بين الطرفين ولم يمض على اجتماع أردوغان وترامب أسبوعان خلال اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك يوم 21/9/2017، حيث أشاد ترامب بأردوغان واصفا إياه "بالصديق المقرب" مضيفا أن "العلاقات بزعامة أردوغان ستشهد تطورا كبيرا في الفترة المقبلة في مختلف المجالات"، وهو أول من هنأ أردوغان على فوزه في انتخابات الرئاسة يوم 16 نيسان الماضي، وذكر أنه "تابع الحملة شخصيا عن قرب"، وقال لأردوغان: "أعطي اهتماما لصداقتنا وإنه توجد هناك أشياء مهمة جدا سنقوم بها معا". إذن العلاقات بين ترامب وصديقه أردوغان "جيدة جدا" كما وصفها الأمريكان، وأنه ينفذ لهم أشياء مهمة جدا في سوريا؛ حيث تآمر على ثورة الأمة وسلم حلب للنظام السوري الموالي لأمريكا، وساق المعارضة الساقطة للتفاوض مع النظام في أستانة، والآن يدخل إدلب ليضيف حلقة من حلقات التآمر لصالح أمريكا حيث أعلنت تأييدها لخطوته في إدلب، وفي العراق دعمها في حربها ضد تنظيم الدولة وفي تركيز سلطة الحكومة العراقية الموالية لها، والآن يتخذ إجراءات مشددة ضد إقليم كردستان حيث قام رئيسه البرزاني بعملية الاستفتاء على الاستقلال من أجل التشويش على أمريكا لحساب بريطانيا والتي تلقت ضربة موجعة في مقاطعة عميلتها قطر. فأردوغان يقوم حقا "بأشياء مهمة جدا" لحساب أمريكا، فلا تستغني عنه، ولا توجد شخصية تتقن الدور النفاقي الذي يقوم به، بحيث يعمل لحساب أمريكا وضد المسلمين ومن ثم يوصف بأنه منقذهم وأنه بطل عظيم يتحدى أمريكا بتصريحات عنترية وخادعة تنطلي على السذج فقط!!
إذن ما القصة؟!
القصة هي أن السخط يزداد يوما بعد يوم على أردوغان بسبب الاعتقالات والإقالات من الوظائف لمن يتهمون بأن لهم علاقات بجماعة غولن والجماعات الأخرى. فالرجل لم يعد يضبط أعصابه وبدأ يتحرك بعصبية وهستيرية، ففقد الأمن والأمان وأصبح يعيش في ظل الهواجس والخوف من القتل أو الإطاحة به. لأنه رأى العام الماضي يوم 15 تموز بأم عينه ذلك في محاولة انقلاب وقتل، فلم يعد يأمن جانب أحد.
لقد اعتقل أكثر من 35 ألفا وأقال أكثر من 120 ألفا من وظائفهم، فهؤلاء الناس لهم أقارب ومعارف ولم ير منهم أعمالا مشينة بصرف النظر عن انتماءاتهم، فأصبح الملايين من الناس غاضبين على أردوغان، والانتخابات الأخيرة أظهرت انخفاض شعبيته، وهو خائف من انتخابات الرئاسة عام 2019 ألا يربحها أو يخسر الكثير، فلا بد له من القيام بعنتريات تمثيلية!
عدا ذلك فإنه أناني متغطرس لا يعطي قيمة لأحد ولا يعترف بفضل أحد، بل هو يمنّ عليهم بأنه لولاه لما كانت لهم قيمة أو اعتبار. وهو يريد طاعة عمياء من أتباعه، بل ممن هم على مستواه في القيادة. فلا يريد أن يخرج أحد عما يقوله. فتصرف بمثل ذلك تجاه عبد الله غول رئيس الجمهورية وداود أوغلو رئيس الوزراء ونائبه أرينج وغيرهم من الوزراء والمسؤولين الذين أبعدوا عن دائرة الاهتمام. فيريد مسؤولين على شاكلة رئيس الوزراء الحالي يلدريم يكون بوقا له فقط يردد كلامه وينفذ أوامره. ولهذا جعل الكثيرين ممن عملوا معه ولهم فضل عليه ودور في تأسيس حزبه وتقويته، جعلهم في دائرة الإهمال، فأصبحوا شبه معزولين.
لقد استقال مؤخرا رئيس بلدية إسطنبول، وهو تابع لحزب أردوغان، بل أجبر على الاستقالة، لأن صهره من جماعة غولن! فطلب أردوغان من رؤساء بلديات آخرين "ليخلوا مناصبهم بشرف"! أي بالاستقالة قبل أن يقالوا من قبله.
فأردوغان حتى يبرر غطرسته ويغطي على مظالمه وعلى خياناته للمسلمين وولائه لأمريكا وتقديمه أعظم الخدمات لها يعمد إلى إظهار أن العلاقات متوترة مع أمريكا التي يتهمها البعض أنها كانت وراء محاولة الانقلاب. وخاصة أن رئيس الجماعة فتح الله غولن يقيم في أمريكا. وذاك الموظف وغيره من جماعة غولن الذين يعملون بسفارة أمريكا ولهم علاقات معها يعلم بهم أردوغان، كانوا حلفاءه بالأمس، ولكنه بدأ بتصفيتهم عندما توترت علاقاته بتلك الجماعة لاختلافهم على المصالح والمناصب، ولأنه يريد أن يضرب عملاء الإنجليز تحت غطاء محاربته لهذه الجماعة، فضربهم ضربات موجعة، ويريد أن يخيف خلاياهم النائمة، لأن للإنجليز عراقة في البلد منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، حيث بدأوا يعملون في نهاية الدولة العثمانية، وأوجدوا لهم عملاء، فهم الذين جلبوا مصطفى كمال وهدموا الخلافة وأقاموا الجمهورية ونظام العلمانية والديمقراطية بواسطته، وأسسوا دولة جديدة موالية لهم من جيش ومخابرات ووسط سياسي وأحزاب سياسية وصحافة وإعلام بعلمانيين موالين لهم، فليس من السهل تصفيتهم. وقد قاموا بانقلابات عديدة كلما رأوا نفوذ الإنجليز في خطر أو أن الأمريكان بدأوا يتركزون ويهددون النفوذ الإنجليزي لشدة ولائهم للإنجليز، وذلك في أعوام 1960، 1971، 1980، 1997، وبمحاولات انقلابية عام 2004 و2007، والمحاولة الأخيرة يوم 15/7/2016 التي لم تتوقف تداعياتها حتى الآن. ولهذا يدرك أردوغان أنه رغم وجود جهاز مخابرات موال له وترابط هذا الجهاز بالمخابرات الأمريكية، فلم يكتشفوا هذه المحاولة إلا بعد تحركها، ولولا سوء تخطيط القائمين بها لكانت ناجحة.
لقد فضل أردوغان التحالف مع أمريكا وبحث عن الأمن والسند والتمكين بجوارها وتخلى عن دين الله في الحكم، فأشرك حكم البشر بإصراره على تطبيق العلمانية الكافرة، ففقد الأمن والأمان وهي نعمة عظيمة منحها الله لعباده المؤمنين العادلين بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فلم يرد أن يوصف كما وصف الخليفة العادل عمر رضي الله عنه: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت". وسيخسر أردوغان وسنده الأمريكان، وسينتصر المؤمنون الذين وعدهم الله بالاستخلاف وبالتمكين وبالأمن والأمان.
رأيك في الموضوع