لم يكن احتلال العراق ناجماً عن فكرةٍ وُلِدتْ في ظروفٍ سياسيةٍ معيَّنة، أو رِدَّةِ فعلٍ لحقبةٍ رسَمَها دكتاتورٌ متسلطٌ على شعبهِ فجاءت إليه حشود العسكر الأمريكيّ نَجدةً للمظلومين منهم، أو لإماطة الحيف والتعسُّف عنهم، بل ولا إحلالاً لحاكمٍ صالحٍ مكانَ فاسد... لا ليس الأمرُ هكذا، بل إنَّ ذلك الاحتلال الغاشم كان مُحصِّلة لمنظومةٍ من المخططات والمشاريع الشيطانية، تعاضدت عليهِ إداراتٌ أمريكية متتالية على اختلافِ تنوُّعها لإيقاع هذا البلد - أعني العراق - في هُوَّةٍ سحيقةٍ من الكوارثِ والمصائب يشيب لهول بعضها الولدان ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ فقد جاؤوا بقَضِّهم وقضيضهم مستَصحبين معهم كلَّ ما أنتجتهُ عقولهم ونوازعهم الرأسمالية من أفكارٍ وممارساتٍ خاطئة وظالمة ليفرضوها بكل أنواع القوة الغاشمة من أسلحةٍ فتاكةٍ، وممارساتٍ همجيَّةٍ هي - في المحصلة - عارٌ في جبين أمَم الغرب والشرق المتفرِّجة على ما يجري في عراق الخير والشَّرف والعِزَّة: عزَّة الإسلام وعقيدته السَّمحة الغراء، عراق الخلافة العباسية الإسلامية العظيمة ليطمسوا معالمهُ النَّيِّرة، وتُراثهُ الخالد وتنوُّعَه الحضاريّ، وينهبوا موارِدَهُ وخيراتِه ﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾.
لم يكتفِ الكافرُ الأمريكيُّ المُحتلُّ بماكنتهِ العسكرية الفتاكة، بل ضمَّ إليها جهوداً حثيثة بذلتها حكوماتٌ عميلة له، ساعدت كثيراً في تثبيتِ وجودهِ وإطالة عمُره... في مُقدِّمتِها إيران وتُركيا بشكلٍ رئيسٍ، فضلاً عن أزلام السُّلطةِ بعرَبِها وعجَمِها ممَّن تعاونوا مع المحتلّ، فلقد باتت إيرانُ - على سبيل المثالِ لا الحصر - مُمسكةً بكلّ مفاتيح الحُكم أو جُلِّها، وتتحكَّم بقرارهِ السياسيّ، إضافة لمليشياتِها التي تفوَّقت - عمداً - على القوات العسكرية النظامية تدريباً وتسليحاً وإخلاصاً لولِيِّهِم خامنئي...! أما تُركيا فهي الأخرى ساهمت في تيسير مُهِمَّة الاحتلال عبرَ فتح قواعدها الجوية في إنجرليك وغيرها، وفي غض الطرف عن عبور أسراب المقاتلين وأنواع الأسلحة إلى كلٍّ من سوريا والعراق لغاياتٍ مرسومة، ثمَّ ظهر إلى العَلن الوجودُ العسكري التركيُّ شمالَ العراق في منطقة بعشيقة وقرب كردستان بحُجة تدريب المقاتلين الأكراد - البشمركة - ومقاتلي العشائر وتقديم المشورة لهم تحت مظلة محاربة (الإرهاب) وطرد تنظيم "الدولة".
ولقد دافعَ المسؤولون الأتراك - أردوغان ويلدريم ونائبهُ - عن وجودِهِم شمال العراق بكلِّ قوةٍ رغم اعتراضات الأحزاب والفصائل الطائفية وتهديدات قادتها بضرب المصالح التركية في العراق، وتقديم طلب لمجلس الأمن الدولي لإجبارهم على الانسحاب باعتبارهم قوَّة احتلال..! لكنَّ رئيس الوزراء يلدريم: قابل ذلك بقولهِ: إنَّ القوات التركية باقية في العراق "ولتقل الحكومة العراقية ما تقول" بشأنها. بل قال نائبهُ نعمان قورتولموش الأربعاء: إنه "لا يحقُّ لأحدٍ الاعتراضُ على وجود القوات التركية في بعشيقة ما دام العراق مقسماً"...! ولسائلٍ أن يسألَ: ما سِرُّ ذلك الإصرار على البقاء في العراق؟ والردُّ عليه ميسورٌ من جهتينِ:
أولاً: إنَّ الوجود العسكريَّ التركيَّ يُساهم بشكلٍ أو آخر - وتحت خديعة محاربة (الإرهاب) - في إنجاح عملية طرد تنظيم "الدولة" ما يَصُبُّ في زيادة أرصدة الحزب الديمقراطيَّ في الانتخابات القادمة، وإعادة شيءٍ من الهَيبةِ التي مرَّغها رئيسهُمُ الفاشل (أوباما) رغم فترة حكمهِ الطويلة في مقابل منافسهم الحزب الجمهوريّ.
ثانياً: إنَّ تركيا وعبر وجودها في العراق يُمكِّنُها من الإشراف والمساهمة العملية عن كثب في إجراءات إقامة الإقليم (السُّنِّيّ) في الموصل - مركز نينوى - بعد انتزاعها من يد "التنظيم" إرضاءً لأمريكا، يدلُّ على ذلك - دلالة واضحة - تصريحاتُ أردوغان ويلدريم ونائبهقورتولموش، وهي على التوالي: "المحافظة على التركيبة السكانية لمدينة الموصل... حيث يكون فيها حينها أهلها فقط بمختلف أعراقهم"، "أن وجودهم إنما هو "لمنع تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة بالقوة... وهدفنا أن لا تتكرر مأساة إنسانية أخرى وأن لا يُراق المزيد من الدماء"، "إن الوجود العسكري التركي في العراق يهدف لتحقيق الاستقرار في وقت تشهد فيه البلاد انقساماً شديداً،... ومن غير الممكن أن تسمح تركيا لأي تنظيم إرهابي - في إشارة إلى مليشيات الحشد الشيعي - بتغيير البنية العرقية والديموغرافية فيهما"، وهذه التصريحات تؤكِّد على جعل الموصل لأهلها دون غيرهم..! وهناك - فضلاً عن ذلك - مساعٍ أمريكية وكردية وشيعية لإقامة محافظات أو أقاليم أخرى في كل من سهل نينوى لإقامة النصارى، وسنجار يقيم فيه اليزيديون، وتلعفر لسكن التركمان الشيعة رغم قلتهم، مع أن الغالبية الساحقة من سكان القضاء عرب أقحاح ومن قبائل عربية عريقة.
أما قول يلدريم بشأن سكوت بغداد عن وجود قوات عسكرية لـ(63) بلداً واعتراضها على القوات التركية: "أنه لا يعكسُ حسن نيَّةٍ" فإنَّ تلك القوات الأجنبية إنْ كانتْ كافرة كالأمريكية والبريطانية والفرنسية والكندية وأضرابها فمسموحٌ تحت خيمة التحالف الدوليِّ لمحاربة (الإرهاب)، وهو كالماء الزلال على قلوب (حكام) العراق أما إنْ كانتْ تلك القوات أفرادها مسلمون كالقوات التركية - مثلاً - فإنَّ ذلك يُزعجُ الوليَّ خامنئيّ في ظاهر الأمر، لأنَّ الأتراك ربَّما عرقلوا بعض خطط إيران أو زاحموها في بعض الميادين، فينسحبَ ذلك الانزعاج إلى كل مَن يواليه ويخضع لسلطتهِ، وهو نفَسٌ خبيثٌ إذ لم يستسغ أولئك الطائفيون وجود الأتراك في العراق لأنَّهم ينتمون إلى مذاهب أهل السُّنَّة رغم أنهم - كالإيرانيين - في خدمة الكافر الأمريكيّ، وتلك ازدواجيَّة لم يُشفَ منها الشيعة... ولعل ذلك ما قصدَهُ يلدريم حين قال: إنَّ اعتراض العراق "لا يعكس حُسن النيَّة".وإنَّ مِن المناسب ذِكرَ شيءٍ مما كان يردِّدُهُ بُسطاء الشيعة عن اليهوديّ الأفغانيّ (زلماي خليل زادة): أنَّهُ مِن أبناء العامَّة..! أي: من السُّنَّةِ لأنَّهُ أفغاني..!
وإنَّ أمريكا لو نجحَت - لا سمحَ الله - في إقامة إقليم نينوى (السُّنِّيّ) واستتبَّ الأمرُ لعملائها من (سُنَّةِ) السلطة كالنجيفيّ والجبوري والمطلك وأمثالهِم من الأقزام والأذناب، مع وجود الإقليم الكرديّ... فلربما شجَّعها ذلك للمُضيِّ قدُماً في مشروع فدرلة العراق، وإكمال ما قَدِمت من أجلِهِ: تمزيق العراق وإنهاء وجوده، لأنَّهُ شوكة في حلوق الكفار من يهود ونصارى... لكنَّ ذلك صعبُ المَنال إذ إنَّ الصِّراعَ على أشُدِّهِ بينَ الأكراد والحكومة الاتحادية لوضع اليدِ على مناطق كثيرة شمال العراق، عرفت بالمناطق (المتنازع عليها) وكان البارزاني قد صرَّح بأن ما تمَّ تحريرهُ بالدمِ فلن يفَرِّط الأكرادُ فيه... وقد استحوذوا على أكثر أراضي محافظة نينوى.. الأمرُ الذي يرفضهُ أهل الموصل جملة وتفصيلا. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ قادة الأحزاب الشيعية يرفضون ما يُزمع الطرفان عمله من العرب والكرد، ليس آخرهُ موضوع تقرير المصير لكردستان العراق واستقلالهِ، أضف إلى ذلك محافظة كركوك الغنيَّة بالنفط هل ستكون من حصة الأكراد أم بغداد. كما أنَّ الخلاف أصلاً على أشُدِّهِ بين أجنحة التحالف الكردستاني واللهاثَ على مواضيع كثيرة متشعِّبة بفعل ولاء بعضِهِم لإيران، وبعضهم يتزلَّفُ لتركيا كالبارزانيّ طمعاً في استحصال تأييدها ودعمِها... إذن، كيفَ سترضي أمريكا أولئك الفرقاء المتشاكسين الذين ما جمعهم غير المصالح الذاتية، فضلا عن ولاءاتهم المختلفة.؟ كما أنَّ المخلصينَ من هذا البلد ممن رفض الاحتلال البغيض ولم يسعَ لتدنيس يديهِ بالتعاون مع رموزه ورفضَ كلَّ ما تمَّ عملهُ في هذهِ الحقبة السَّوداء الحالكة، لن يبقى على صمتهِ وسينتفض الشرفاء من الرجال الذين يبغِضون الخضوع للكفار، وهم يَعُدُّون أنفسَهُم مدداً وسنداً للمُخلصين من أمة الإسلام في كلّ وقتٍ وحين بإذن الله تعالى، وعندها ستعلم أمريكا أنها ارتقت مرتقىً صعبا لن يمُرَّ دون حسابٍ شديدٍ وعذابٍ أليمٍ لها ولعملائها وأزلامها الذين مكَّنوا لها وزيَّنوا لها عملها الخسيس فقد آذتْ المسلمين في كل مكانٍ وأصابتهم بكثير من الظلم والقهر... فنسأل الله العليَّ القديرَ أن يَمُدَّ العاملين المُخلصين لإنجاز مشروع الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوَّةِ بمَدَدٍ من عندِهِ، ليُطهِّرَ خليفتُهُم الحياة من رجسِ الكافرينَ ودَنَسِهم، ويقيمَ صروحَ العدل والإحسان إلى الخلق ليعود الناسُ إخوةً في الدين أو الإنسانية، ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع