تحاول جميع وسائل الإعلام تصوير تدخل روسيا العسكري في سوريا وقصفها الإجرامي لأهلنا الثائرين على النظام المجرم في أسواقهم ومدارسهم ومشافيهم، بأنه يأتي في إطار التنافس والصراع الدولي بين روسيا التي تدعم النظام وتمثله من طرف، وبين الولايات المتحدة التي يصورونها بأنها داعمة للمعارضة الثائرة وممثلة لها من طرف آخر... فهل هذه هي الحقيقة فعلاً؟ أم أنه نوع من التضليل وتزييف الحقائق؟ هذا ما سنجيب عنه في هذه الأسطر القليلة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإصدار مجلس الأمن - بدفع من أمريكا وبريطانيا - قراراً يقضي بخروج قوات الاستعمار الفرنسي من سوريا، عاشت سوريا مدة ربع قرن من التقلبات السياسية والانقلابات العسكرية التي كانت تنقل البلد مرة من النفوذ البريطاني إلى النفوذ الأمريكي، ومرة أخرى بالاتجاه المعاكس، إلى أن استقرت الأمور تحت الهيمنة الأمريكية بعد وصول حافظ أسد إلى سدة الحكم عام 1970م. وفي جميع هذه الأثناء لم يكن مسموحاً للاتحاد السوفييتي الشيوعي الاقتراب من المنطقة العربية التي كانت عموماً خاضعة لسيطرة دول حلف شمال الأطلسي الرأسمالية.
ولمنع تهمة الخيانة من أن تلتصق بحكام المنطقة حينها، حيث كانوا عملاء لدول الغرب الرأسمالي - أمريكا وبريطانيا- التي أنشأت كيان يهود وتسهر على حمايته، تم إيهام المسلمين أن حكامهم حلفاء للاتحاد السوفييتي. وكي تكتمل حلقة التضليل تلك سمحت الدول الغربية لأنظمتنا العميلة بأن تبني جيوشها بناء على صفقات التسليح المقامة مع الاتحاد السوفييتي.
إلا أن نظرة فاحصة لنظام الحكم في سوريا خلال حكم حافظ أسد وما قام به من أعمال مهمة تري أنه كان يخدم المصالح الأمريكية بالذات وليس مصلحة الاتحاد السوفييتي أو أية دولة عظمى أخرى، ومن هذه الأعمال على سبيل المثال قمع الشيوعيين بشدة، ودخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976م، وإبقاؤه تحت الهيمنة الأمريكية إلى اليوم بعد اتفاق الطائف، وعدم السماح لعملاء بريطانيا وفرنسا بالتأثير في مواقفه، واشتراك القوات السورية في التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة لضرب نظام صدام حسين إثر احتلاله للكويت سنة 1990م، وبقاء هذا النظام على الدوام في حالة توتر دائمة مع أنظمة الحكم المجاورة التابعة لبريطانيا كالنظام العراقي حينها والأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية زمن ياسر عرفات والنظام التركي الخاضع للجيش الكمالي ذي التبعية البريطانية...
وأكبر دليل على أن نظام أسد لم يكن يوماً تابعاً للسوفييت أنه لما سقط الاتحاد السوفييتي وانهارت المنظومة الاشتراكية بدأ النظام السوري بالعودة التدريجية نحو النظام الرأسمالي الحقيقي، وكان إصدار المرسوم رقم 10 لعام 1990م إيذاناً ببدء هذا التحول، حيث سمح للمستثمرين العرب بدخول البلد برؤوس أموالهم والاستثمار فيه، بعد أن كان الاستثمار محرماً لأنه بيع البلد للأجانب! ثم تتالى تغيير القوانين تدريجياً، واتجهت الدولة نحو خصخصة مؤسسات القطاع العام بالتدريج، ورفع الدعم عن كثير من المواد المدعومة من قبل الدولة...
وقد ازدادت وتيرة هذا التحول إلى الرأسمالية مع استلام بشار للحكم بمباركة وزيرة الخارجية الأمريكية حينها مادلين أولبرايت، وأصبح بشار ينتقل من بلد إلى بلد داعياً المستثمرين إلى سرقة البلد ومقدماً لهم جميع الحوافز والمغريات المطلوبة، سامعاً مطيعاً لكل ما يصدر من أسياده الأمريكان من أوامر، ولا أدل على ذلك من انسحابه من لبنان بين يوم وليلة عندما زاد الضغط الأوروبي على سيدته أمريكا بعد قتل رفيق الحريري، فأصدروا له الأوامر بالانسحاب، فنفذ فوراً. وقام بإحداث التقارب مع الحكومة التركية المدعومة من أمريكا، حكومة حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان.
إذاً ففي زمن كان فيه الاتحاد السوفييتي على سروج خيله وكان يصارع أمريكا على سيادة العالم لم يكن يستطيع التدخل في الشأن السوري إلا بعد موافقة الولايات المتحدة، فكيف بروسيا اليوم وقد نزلت مرتبتها الدولية بعد انهيار اتحادها السوفييتي، وعودتها دولة إقليمية لا تدري كيف ترد عن نفسها الصفعات الأمريكية؟!
على ضوء ما سبق لا يستطيع المراقب المنصف والمتابع بدقة لأحداث الثورة السورية منذ بدايتها، والذي رأى قيام روسيا بدور المدافع عن النظام السوري - العميل لأمريكا - ضد الإدانة الدولية في مجلس الأمن أولاً، ثم قيامها مع إيران بإمداد النظام بالسلاح والذخيرة، ثم تدخلها العسكري المباشر للحفاظ على النظام وإجبار الثائرين على القبول بالحل السياسي الأمريكي، وإعطاء أمريكا لهم المهلة تلو المهلة... لا يستطيع المراقب المنصف إلا أن يعترف بأن روسيا تقوم في سوريا بمهمة أمريكية بامتياز، هدفها تحقيق الحل السياسي الأمريكي والحفاظ على جيش النظام المجرم وأجهزة أمنه.
هذه هي حقيقة العلاقة بين روسيا وأمريكا في سوريا، إنها ليست علاقة منافسة كما يتوهم الكثيرون ويحاولون إيهامنا به، بل هي استخدام لروسيا من قبل أمريكا لتحقيق أهدافها بالحفاظ على النظام المجرم وإنهاء الثورة السورية المباركة، التي باتت تقض مضاجع أمريكا وشيبت رئيسهم، والتي نسأل الله ألا يطول أمدها حتى ينبثق منها النور الذي سيضيء جنبات الأرض، ويتحقق على أيدي المخلصين من أبنائها وعد الله وبشرى رسوله الكريم ﷺ بقيام الخلافة على منهاج النبوة.. ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾.
بقلم: عبد الحميد عبد الحميد
رأيك في الموضوع