مثل هذه الحقائق مما حدث في الجزائر (وما ورد في الجزء الأول من هذا المقال)، تُبرز أهميةَ الوعي السياسي من زاوية الإسلام في العمل الجاد بقصد تصحيح أوضاع الأمة الإسلامية، وتكشف ألاعيبَ ومكائدَ الدول الرأسمالية الاستعمارية الخبيثة، التي يستحيل معها قيامُ كيان سياسي للمسلمين من شأنه أن يُعيد الأمورَ إلى نصابها في بلادهم الغنية بالثروات من كل صنف والواسعة بَشَرياً وجغرافياً، ويمكِّنهم من حمل رسالتهم إلى العالم ومن إيصال دعوتهم إلى شعوب الأرض، إلاَّ أن تمتلك نخبـُهم في مجملها فكراً سياسياً راقياً يعالج الواقعَ، ووعياً سياسياً على مستوى أو يفوق ما تمتلكه الدول الكبرى ونخبـُها.
إلا أنه بالنظر إلى ما أحرزه جناحُ جنرالات فرنسا في الحكم من تقدم في مواقع الساحة السياسية في الجزائر بعدما جيء بالشاذلي بن جديد رئيساً للبلاد، وتحضيراً لانقلاب كانون الثاني/يناير 1992م الذي كان بمثابة نقطة تحول جديد في مسار البلد، وبناءً على ما حققه هؤلاء خاصةً بعد 1986م على حساب خصومهم السياسيين من الطرف الآخر (جماعة الإنجليز) الذي كانت تمثله في الواجهة جبهةُ التحرير الوطني بما لها من حضور واسع في الأوساط المدنية كما في الأوساط العسكرية، وبما لها من امتداد كبير في الذاكرة الجماعية للشعب أثناء ثورة التحرير وما بعدها، دخلت البلاد فصلاً جديداً من الصراع على المواقع في جهاز الحكم. فكانت التعددية السياسية الكاذبة والديمقراطية الزائفة في 1988م تحت إشراف الاستخبارات العسكرية والجهات الفاعلة أيام الرئيس الراحل بن جديد، والمحسوبة بدقة من طرف النافذين من العسكريين حينها (أمثال الجنرالات بلخير ونزار وتواتي ورفاقهم...)، لكي تُفضيَ إلى ما كان يطمح إليه أصحابُ انقلاب 1992م ("حزب فرنسا" في الجزائر) بعد ضرب الإسلاميين بالوطنيين والوطنيين بالإسلاميين، فيما سمي العشرية السوداء التي استُخدم فيها "الإسلام السياسي" وأنصارُ جبهة الإنقاذ الإسلامية كأداة في الاقتتال والعنف المادي والصراع المسلح، ولكي تكونَ النتيجة في النهاية تقوية نفوذهم وتعزيز مواقعهم ووضع رجالاتهم في كل مفاصل الدولة بدءًا بالجيش ومنه الأمن العسكري والدرك والأمن الوطني (الشرطة)، وفي كل الوزارات والأماكن الحساسة في منظومة الحكم والاقتصاد والإدارة وغيرها.
إلا أن هؤلاء الخصوم السياسيين (فريق الإنجليز) كانوا على موعد مع أخذ السلطة في الجزائر مرة أخرى في 1999م عندما استقدمت بريطانيا عميلَها بوتفليقة وأحضرته من سويسرا وأعادته مجدداً إلى الواجهة في الجزائر ضمن صفقةٍ مع الجنرالات الموالين لفرنسا في الجيش، الذين أخفقوا في تسيير وإدارة شئون البلاد، والذين تلطخت أيديهم بدماء أهل الجزائر المسلمين بعدما ارتكبوا في حقهم مجازر وجرائم وفظائع رهيبة بعد انقلاب 1992م، على ألا تمسهم مساءلة أو محاسبة، فكانت مبادرة الوئام المدني وميثاق السلم والمصالحة مع عودة بوتفليقة رئيساً للبلاد.
فالصراع بالشكل الدقيق في الجزائر منذ نشوء الدولة هو بين عملاء الإنجليز (مدنيين وعسكريين) وبين عملاء فرنسا الفكريين والسياسيين (مدنيين من جميع الفئات، وعسكريين أيضاً وخاصةً مَن هم الآن في المؤسسة العسكرية مِن الجنرالات الموالين لها). وكل منهما يسعى للسيطرة على ما أمكنه من أجهزة الدولة ومواقع التأثير ومراكز القرار، وأهمها: الرئاسة وقيادة أركان الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات. فترجحُ كفةُ هذا الطرف أو ذاك بحسب ما استطاع السيطرةَ عليه من هذه المؤسسات. هذه هي النظرة الصحيحة لواقع الحكم وحقيقةِ مَن يحكم في الجزائر "المستقلة"!
وحيث إنَّ كلا الطرفين تُحركهما جهات استعمارية دولية هي على التوالي فرنسا (في الظاهر) وبريطانيا (في الخفاء)، وحيث إن ما يهم أصحابَ القرار من وراء المتوسط (والدول الغربية عموماً) حقيقةً، هو ألا تقوم أية دولة حقيقية في شمال إفريقيا بل وفي البلاد الإسلامية كلها، فضلاً أن تكون إسلامية، ثم بحكم أن الخصومةَ بين هاتين القوتين الأجنبيتين في المستعمَرات (بريطانيا وفرنسا) ليست أيديولوجية، وبحكم الروابط والعلاقات التاريخية بينهما في تقاسم المنافع فيها، أي في المستعمرات، وأنهما تخشيان معاً من لاعبٍ دولي أقوى وأكبر منهما معاً هو أمريكا تحديداً..
فبالنظر إلى كل ذلك، دخلت الجزائر طبيعياً ومنطقياً على مستوى السلطة في لعبة توافق بين الفريقين في النفوذ، وصار النظام الحاكم في البلد يتكون منهما معاً، وبات الصراع بين الطرفين صراعَ مصالح ومواقع وليس صراعَ تصفية وجودٍ ولا هو صراع حياةٍ أو موت. وهذا ما تجسد بالفعل - بشكل واضح - مع مجيء فريق بوتفليقة، أي منذ 1999م إلى الآن، حيث أعاد الجزائر سياسياً مجدداً إلى أحضان ونفوذ الإنجليز. علماً أن ضباط فرنسا صار لهم هم أيضاً واجهة سياسية منافِسة لجبهة التحرير بدأت تشتغل في الساحة وتكتسح المواقـع منذ 1997م هي التجمع الوطني الديمقراطي التابع للمؤسسة العسكرية مباشرة (جنرالات فرنسا تحديداً)، بالإضافة إلى قوى سياسية أخرى ثانوية.
ثم خلال كل هذه الفترة (أي منذ عودة بوتفليقة في 1999م لكي لا نذهب بعيداً) كان يجري التلاعبُ بالتشكيلات السياسية والمرشحين، وبالصناديق والانتخابات في كل مرة، وبمواد الدستور - من أجل التمديد للرئيس مثلاً - وبقانون الانتخاب وغير ذلك، لكي تخرج النتائجُ المحسوبة والمرتبة مسبقاً، وكان كل ذلك يحصل باتفاق بينهما في أعلى الهرم، وهو ما أوجدَ نوعاً من الاستقرار - طوال كل هذه السنوات - في ظل تقاسم المصالح بينهما وفي ظل العمالة والتبعية للأجنبي (الأوروبي)، على حساب الشعب المثقل باللاوعي السياسي وبجراح الجهل وبهموم المعيشة.
ومع التحولات السياسية في المنطقة، وفي الجزائر بالذات نظراً لأهميتها وموقعها، وعلى ضوء المستجدات في ساحة الصراع الدولي بين الأوروبيين والأمريكيين، فإن هؤلاء الأعداء الكفار في أوروبا اختاروا أن يوجِدوا في الجزائر التنسيقَ المطلوب بين الفئات والعائلات السياسية في البلاد من "إسلاميين" (معتدلين) ويساريين وعلمانيين وليبراليين ووطنيين منذ الآن، وأن يجعلوا مطالبَ هذه الفئات لا تخرج عما رُسم لها: الحريات، المواطنة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، مدنية الدولة، رفع "الحقرة" (الإقصاء والتهميش)، الوظائف، السكن، حقوق الإنسان، المساواة بين الرجل والمرأة... وحرصوا جميعاً أشد الحرصِ على ألا يكون فيها مجرد رائحة ما يجب أن يكون (!!)، وهو بناء الدولة والمجتمع على أساس الإسلام، الضامن لكل الحقوق، وذلك لكي يهيئوا الأرضية المطلوبةَ للمرحلة التوافقية المقبلة: مرحلة الشرعية الشعبية، ومرحلة (وهم) الدولة المدنية المزعومة!
وواضح مما جاء مثلاً في ديباجة وثيقةٍ (مفعمة بالوطنية والعلمانية) صادرةٍ عن أقطاب"المعارضة" في الجزائر، المشكِّلة للتنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي، أن كل أعضائها من الشخصيات والتشكيلات السياسية (بما في ذلك "الإسلاميين")، أجمعوا على ترك الإسلام وراء ظهورهم، وتوافقوا على اعتباره ديناً مفصولاً عن الحكم وعن الدولة وعن السياسة، وسقطوا جميعاً في مستنقع التوافق الديمقراطي ومستنقع "الحرية أولاً!"، تحت سقف الوطنية الدنيئة والقطرية الضيقة، وبناءً على مرجعية فاسدةٍ وساقطة شرعاً، وضمن الإطار الجمهوري والدولة الوطنية الضامنة لبقاء هيمنة ونفوذ المستعمر الغربي (الأوروبي خاصة) في البلاد،.. إلى أن يأذن الله بقيام الخلافة، وهي دولة المسلمين التي تجعل من الإسلام منطلقاً وأساساً لها في الحكم وفي الرعاية وفي التشريع وفي حمل الدعوة وفي علاقات الدولة الخارجية، وفي كل شأن من شئونها.
ولا شك أن أصابع القوى الدولية الكبرى ليست بمنأى عن هذه الأطراف السياسية الموجودة في الساحة، إذ نلمس بشكل واضح حضورَ القوى الدولية الغربية فيما تقوم به بريطانيا من أعمال سياسية من أجل احتواء وتوظيف كلِّ من ينشد التغييرَ في الجزائر، وذلك مثلاً عبر توفير منبر القناة الفضائية "المغاربية" التي تبث من لندن (واحدة بالعربية والأخرى بالأمازيغية) ومثيلاتها، ضمن إعلامٍ هادف وموجهٍ يخدم التوافق الأوروبي (البريطاني-الفرنسي) بغرض توجيه المطالب والإشراف على مآل التحول السياسي في المغرب العربي ككل - وفي الجزائر خاصة - من خلال بلورةِ مسار سياسي يكون مطلباً للثائرين، ومن خلال تطويعِ المطالبين بالتغيير على أساس الإسلام بأساليب غاية في المكر والدهاء.
ولا نستبعد في هذا السياق أن يجري توظيفُ جبهة الإنقاذ الإسلامية مرة أخرى في مسار سياسي يُفضي في النهاية إلى ما تريده أوروبا الاستعمارية الحاقدة، وذلك بعد تبرئة هذه الجبهة تماماً من تبعات العمل المسلح وما جرى في تسعينات القرن الماضي، وهو ما سيهيئها للزج بها مجدداً في الساحة السياسية وفق معطيات الشرعية في المرحلة الجديدة، وهو بالضبط ما نراه يجري في هذه الآونة.كل ذلك من أجل الإبقاء على النظام وبالتالي التبعية للغرب، ولكن بوجه جديد يضمن الاستمرارية، ولو بإشراك جبهة الإنقاذ أو بعضها (بهذا الاسم أو بغيره) في اللعبة السياسية، أي في بناء "الدولة المدنية الجديدة"، وهي الآن تتهيأ لذلك. فضلاً عن جبهة التحرير الوطني (بواجهة جديدة) وجبهة القوى الاشتراكية (المروَّضة) والتجمع الوطني الديمقراطي وطلائع الحريات (حزب بن فليس) وغيرها من القوى السياسية. لذا فإننا لا نأمن أن يتم دفعها أو سحبها مجدداً إلى مستنقع الديمقراطية والأرضية التوافقية و"الحرية أولاً"، بعد اختفاء المطالبة بالدولة الإسلامية وبتطبيق الشريعة الإسلامية من خطاب قادتها.
بقلم: صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع