إن الخلاف والصراع يدور في الدول عادة إما بسبب اختلاف الآراء حول السياسات التي تتبعها، وإما بسبب حدوث أزمات مستفحلة يعجز النظام عن حلها، وإما لتغيير النظام بشكله وتركيبته أو برمته بسبب اختلاف الأفكار أو الاختلاف في وجهة النظر عن الحياة، وإما بسبب التنافس بين الأشخاص والأحزاب للوصول للحكم أو بسبب اختلاف ولاءات هؤلاء وارتباطهم بدول خارجية أو لوجود صراع دولي فيها.
فقد حصل في إيران صراع دولي ظاهره بين الأشخاص في بداية الخمسينات من القرن الماضي فقام مصدق الذي كان مرتبطا بأمريكا بانقلاب ضد بريطانيا وعميلها الشاه وشركاتها النفطية فقام بتأميمها. لكن لم يثبت فأسقطته بريطانيا عام 1953 بعدما تم التفاهم مع أمريكا بتقديم تنازلات لها بالسماح للشركات الأمريكية بدخول إيران.
وبدأت أمريكا العمل في إيران لبسط نفوذها فيها بتركيز وجودها بالشركات وببيع السلاح للتأثير على النظام وإيجاد العملاء. ووجد فيها حركات ضد النظام لتغييره برمته سواء للشيوعية أو للإسلام أو لتغيير شكله وتركيبته من ملكي إلى جمهوري. حتى قامت الثورة عام 1979 حيث أخذت مسحة إسلامية فغيرت شكل النظام وأدخلت بعض الترقيعات من الإسلام، ولوحظ تأثير أمريكا فيها وارتباط شخصيات مؤثرة في الثورة بها. ولذلك ارتبط النظام الجديد بأمريكا، وقد صرح قائد الثورة الخميني وهو في باريس لواشنطن بوست إننا مستعدون للتعاون مع أمريكا بشرط ألا تتدخل بشؤوننا الداخلية. فأصبحت هذه سياسة إيران؛ ارتباط خارجي بأمريكا واستقلال داخلي.
وقد ظهرت منذ بداية الثورة صراعات عديدة بين شخصيات وقوى سياسية وحصلت تصفيات لبعضها وسقوط أخرى. وحصلت احتجاجات عام 2009 على انتخاب نجاد فكان صراع داخلي برز فيه أشخاص مثل مهدي كروبي ومير موسوي، وقال يومها الرئيس الأمريكي أوباما بأن المرشد خامنئي سيحسم الخلاف، فأخمدت تلك الاحتجاجات ووضع هذان الشخصان تحت الإقامة الجبرية. وحاولت أوروبا وخاصة بريطانيا وفرنسا استغلال الأمر للعودة إلى إيران فلم تفلحا.
وحصل اختلاف حول السياسات التي تتبعها الدولة في معالجة المشاكل وخاصة عندما وضعت العقوبات الغربية عليها فأثرت عليها حتى وصفها الرئيس الحالي روحاني بأنها أرجعت إيران إلى العصر الحجري، وأنها أثرت على المجتمع، حيث أشار إلى خطرها على النظام بجانب التهديدات الخارجية بضرب المفاعلات النووية الإيرانية من قبل كيان يهود مدعوما بأوروبا. ولهذا أرادت أمريكا رفع العقوبات عن إيران لحماية النظام التابع لها وحتى يتحرك بكل أريحية وبشكل مبرر في تنفيذ المشاريع الأمريكية في المنطقة.
فرفع العقوبات زاد من قوة روحاني وفريقه، فقد نقلت رويترز يوم 18/1/2016 عن مسؤول إيراني قوله: "إن شعبية روحاني زادت حتى بالمقارنة بعام 2013 بسبب نجاحه النووي، سيساعد ذلك حلفاءه كثيرا على الفوز بأغلبية في الانتخابات.. الناس يعلمون أن سياسة روحاني أنهت عزلة إيران ومشكلاتها الاقتصادية، إنه بطلهم".
والملاحظ أن زعيم البلاد ومرشد الجمهورية خامنئي يلعب دورا مهما في حسم الخلافات وفي إقرار السياسات مثلما حسم الخلاف عام 2009، وحسم الخلاف فيما يتعلق بالاتفاق بالبرنامج النووي الذي اعترض عليه بعض الذين يوصفون بالمتشددين، فقد نقلت رويترز يوم 18/1/2016 عن مسؤول إيراني كبير له صلة بالمحادثات مع مجموعة دول 5+1 التي أدت إلى تقويض البرنامج الإيراني النووي مقابل رفع العقوبات التي شلت اقتصاد البلاد فقال "كل خطوة اتخذتها الحكومة وافق عليها الزعيم، الزعيم حمانا من ضغوط المتشددين". وخامنئي يدعم سياسات روحاني حيث كان ممثله لمدة 20 عاما في المجلس الأعلى للأمن القومي.
ويلاحظ على خامنئي أنه يدغدغ المشاعر في بعض الخطابات والتصريحات وينتقد أمريكا ولكنه في الأفعال يوافق على السياسات التي تسير في ركب أمريكا، وقد ورث ذلك من الخميني، فأصبح يتقن هذا الدور، وظهر ذلك عندما أصبح الرئيس الثالث للجمهورية لفترتين بعد سقوط بني صدر وبعد مقتل رجائي، وقد شهدت إيران في تلك الفترة صراعات حادة واغتيالات عديدة، وقد لعب دورا مهما في دعم نظام الأسد في سوريا وفي لبنان في الثمانينات من القرن الماضي، كما لعبت إيران على عهده دورا في الإمساك بورقة الشيعة بلبنان وأحزابهم وربطهم بالنظام السوري.
من المقرر عقد انتخابات مجلس الخبراء المكون من 88 عضوا يوم 26 من الشهر الجاري ويتابع المجلس أعمال المرشد الأعلى وسيختار خلال مدته التي تبلغ ثماني سنوات من يخلفه، ومن المقرر أن تجري أيضا انتخابات برلمانية في اليوم نفسه لاختيار 290 نائبا عدد أعضاء المجلس. فيجري التنافس على قدم وساق، بين من يطلق عليهم متشددين وبين المعتدلين أو الإصلاحيين، وقد استبعد الكثير ممن ترشحوا من الآخرين، فنقل عن روحاني قوله يوم 30/1/2016: "التقارير الأولية التي وصلتني لم تسعدني على الإطلاق سأستخدم كل سلطاتي لحماية حقوق المرشحين"، ونقل عن خامنئي قوله: "سبق وأن قلت إنه حتى أولئك الذين يعارضون الجمهورية الإسلامية يجب أن يشاركوا في الانتخابات رغبة منه في إقبال واسع يعكس دعما شعبيا للنظام. فقط من يؤمن بالجمهورية الإسلامية وقيمها ينبغي السماح له بدخول البرلمان" فقبل ترشح 1% ممن يسمون إصلاحيين، ومثل ذلك تكرر في الانتخابات السابقة.
ويحاول رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني أن يلعب دورا مؤثرا وحاول البروز في كل مرحلة من مراحل الصراع سابقا، وكان دائما يدعم الإصلاحيين ويصطدم مع ما يسمى المتشددين ومع الحرس الثوري. ويعمل على اغتنام الفرص، فعندما خضع خامنئي لعملية جراحية لاستئصال سرطان البروتستاتا قبل شهرين، صرح رفسنجاني يوم 13/12/2015 قائلا: "سيتحرك مجلس الخبراء عند الحاجة لتعيين زعيم جديد، إنهم يستعدون لذلك الآن ويدرسون الخيارات". وأعلن تأييده لحسن الخميني حفيد الإمام الخميني في انتخابات مجلس الخبراء.
وقد استُبعد حسن الخميني عن الترشح لخوض انتخابات مجلس الخبراء من قبل مجلس صيانة الدستور كما رفض أمثاله ممن يريدهم رفسنجاني، فثارت ثائرة رفسنجاني. فرد عليه نائب مندوب المرشد في الحرس الثوري، عبد الله حاجي صادقي حيث قال إن تصرفات رفسنجاني "أشبه بتصرفات الأعداء"، مشددا على أن "أقوال رفسنجاني غير صحيحة". وقد هاجم آخرون مقربون من المرشد هاشمي رفسنجاني.
إن رفسنجاني يعمل على دعم مواقفه وحشد قواه بكسب المؤيدين وإيصالهم إلى مراكز صنع القرار في الدولة كما دعم سابقا محمد خاتمي لتولي رئاسة الجمهورية، ليبقى مؤثرا في النظام، وقد جرى تداول الكلام سابقا أنه يريد أن يخلف خامنئي، وهو في حالة تنافس منذ القديم مع المتشددين. وعمل الآخرون على الحد من قوته، ولكن لم يسقط.
وقد أيد خامنئي الاتفاق النووي متجاهلا المتشددين الذين يرفضون التعامل مع الشيطان الأكبر أمريكا، وهؤلاء قلقون من تنامي نفوذ روحاني وشعبيته فعقدوا العزم على إظهار حدود سلطة الرئيس في الداخل إذ يعارضون أي تحرر سياسي فهم يخشون من أن يكافئ الناخبون الذين يأملون تحسن مستويات المعيشة بعد رفع العقوبات، المرشحين الموالين لروحاني في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء، كما ذكرت الأنباء.
ولكن كل هذه الصراعات والتنافسات تجري بين قوى وشخصيات تقبل بالنظام الحالي وبسيره السياسي بشكل عام، ولكن منها من يريد ألا تنفتح إيران كثيرا على أمريكا والغرب ومنها من لا يخشى هذا الانفتاح أو يريد المزيد. وتبقى إيران تسير في السياسة الخارجية في فلك أمريكا، بل تنفذ لها كل ما تريد، وسيبقى ذلك حتى يتغير حال المنطقة بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لتنهي وجود أمريكا من المنطقة وتعمل على ضم إيران إليها وجعلها وشعبها جزءا منها بعيدا عن النفوذ الأمريكي.
رأيك في الموضوع