وقعت الدول الاثنتا عشرة (12) الأعضاء في «الشراكة عبر المحيط الهادي» رسميا يوم 4/2/2016 في نيوزيلندا اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي (TPP) التي تسمح بإقامة أكبر منطقة للتبادل الحر في العالم والتي ترى فيها واشنطن وسيلة لوضع قواعد التجارة الدولية والتصدي للقوة الصاعدة للصين. ويهدف الاتفاق إلى إزالة الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان والمكسيك وماليزيا ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة والولايات المتحدة وفيتنام. وتشكل هذه الدول نحو 40 في المائة من الاقتصاد العالمي، لكن الاتفاقية لم تشمل الصين ثاني اقتصاد في العالم، التي استبعدت من المفاوضات. وفي بيان نشر في واشنطن أشاد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالاتفاق الذي يعزز موقع الاقتصاد الأمريكي بالمقارنة مع الاقتصادات الكبرى الأخرى. وقال أوباما إن «اتفاقية الشراكة للمحيط الهادي تسمح للولايات المتحدة - وليس للصين - بوضع خريطة طريق القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر مهم في منطقة تتسم بالحيوية مثل منطقة آسيا المحيط الهادي» وأضاف: «إنه اتفاق تجاري من نوع جديد يمنح العالمين الأمريكيين الأولوية»، مؤكدا أنه «بكل بساطة سيعزز قيادتنا في الخارج وستدعم الوظائف هنا في الولايات المتحدة». وتعكس هذه الرؤية رؤية بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر الذي اعتبر قيادة أمريكا للعالم ضرورية خاصة في منطقة أوروبا وآسيا والتي سماها (يوروسيا). كما يعبر عن رؤية هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة والتي كانت قد ذكرت أن أمريكا تحتاج إلى استراتيجية واضحة لمواجهة النمو الصيني المضطرد.
كما عبر شينزو آبي رئيس وزراء اليابان الحليفة القريبة لواشنطن عن ارتياحه للاتفاقية التي تحدد قواعد اللعبة في التجارة الدولية. وقال إن اليابان: «لعبت دورا فعالا من أجل إيجاد قواعد عبر قيامها بدور أساسي في المفاوضات مع الولايات المتحدة». أما الصين فإنها تعمل على إقامة منطقة للتبادل الحر بين آسيا والمحيط الهادي. كما أطلقت البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية من أجل تمويل مشاريع في آسيا وتحقيق توازن مع سيطرة واشنطن على البنك الدولي، وطوكيو على البنك الآسيوي للتنمية. وقال مسؤول في وزارة التجارة الصينية إن «الصين ستواصل المشاركة بفاعلية (...) في اتفاقات للتبادل الحر تتسم بشفافية كبيرة وانفتاح وشمول». وأوضح أن بكين تجري تقييما لاتفاقية الشراكة في المحيط الهادي. وقالت الوزارة إن هذه «اتفاقية موسعة والصين تدرسها وتقيم العمل الحالي حاليا». و«نأمل أن تكون اتفاقيات التجارة الحرة المتنوعة في منطقة آسيا والمحيط الهادي مكملة بعضها لبعض وأن تساهم معا في تعزيز التجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي لهذه المنطقة".
ويهدف الاتفاق الواسع جدا إلى تحديد قواعد التجارة والاستثمارات الدولية في القرن الحادي والعشرين ويعول على دفع الصين إلى تكييف قواعدها الخاصة في مجال التجارة والاستثمار والقانون التجاري مع تلك التي تنص عليها الاتفاقية. وتنص الاتفاقية التي تحتوي على 30 فصلا على تخفيض أو إلغاء معظم الرسوم الضريبية على كل المنتجات، من لحوم البقر ومنتجات الألبان، والنبيذ والسكر والأرز والمزروعات والمأكولات البحرية، وصولا إلى المنتجات المصنعة والموارد والطاقة. وهي تشمل أيضا قطاعات مثل تبادل المعلومات والملكية الفكرية التي لم تكن تشملها الاتفاقات السابقة المتعددة الأطراف. وأغلب هذه السلع أمريكية.
وبينما يؤكد المروجون للاتفاقية أنها ستسمح بتحفيز النمو الاقتصادي في المنطقة، ترى منظمات غير حكومية أن هذا الاتفاق سيؤدي إلى خلل مهم في الأرباح لمصلحة الشركات المتعددة الأطراف والجنسيات كما يضر بحقوق العمال والبيئة والسيادة وحتى الحصول على الأدوية. وكانت ويكيليكس المشهورة قد نشرت في نيسان 2015 تصريحا علقت فيه على الفصل الخاص بالتحكيم بين المستثمرين والحكومات والذي ورد فيه "إنه ليس من المناسب أبدا أن نرفع المستثمر (الشركات العملاقة) إلى مستوى الحكومات والدول القومية في حال فض المنازعات والخلافات" وقالت إن فصل التحكيم هذا يخول صلاحيات فوق العادة للشركات وأصحاب رؤوس المال وأن الاتفاقية تمنح الشركات وأصحاب المال صلاحيات مميزة مقابل الشركات المحلية للدول الموقعة، ومقابل الحكومات المحلية، ومقابل مصالح القطاع الخاص في الدول المحلية". ما يعني أن شركة مايكروسوفت الأمريكية مثلا سيكون لها امتيازات خاصة في نيوزيلندا وماليزيا أكثر من تلك التي تتمتع بها حكومات هذه الدول وشركاتها وقطاعها الخاص. أي أن هذه الاتفاقية جاءت لتضع قواعد لحماية مكتسبات العولمة التي فرضتها أمريكا خلال العقود الماضية.
وبالرغم من أن التصريحات التي صدرت حول هذه الاتفاقية تسلط الضوء على حصار الاقتصاد الصيني، وهو بدون شك أحد الغايات التي تطمح إليها أمريكا لتمنع الصين من استغلال تنامي اقتصادها بشكل يؤثر على قوة أمريكا السياسية والاقتصادية. إلا أن الأهداف الأخرى والتي تكاد تكون هي الأهم تتلخص في أمرين مهمين:
الأول: يتعلق بحماية مكتسبات العولمة الأمريكية. حيث أصبح رأس المال الأمريكي متجولا في العالم خاصة في منطقة المحيط الهادي حيث أكثر من 40% من الاقتصاد العالمي والذي أغلبه رأسمال أمريكي أو شركات أمريكية منتجة أو بضائع أمريكية. فجاءت هذه الاتفاقية لتحمي هذه المكتسبات من خلال فصول حماية الملكية الفكرية وبراءات الاختراع وتنقل المال والبضائع والتحكيم بين الشركات والحكومات.
الثاني: أن الاتفاقية التي تم توقيعها كانت قد أنشأتها بريطانيا بين دول أغلبها تابعة لها وهي بروناي وسنغافورة ونيوزيلندا وتشيلي سنة 2005 فيما عرف باتفاقية عبر الهادي للشراكة الاقتصادية الاستراتيجية (TPSEP). ورأت أمريكا في هذه الاتفاقية منافسة لها ولهيمنتها على الاقتصاد الدولي، من قبل بريطانيا ومحاولة من بريطانيا حماية الدول التابعة لها والتي تعتبر أحد مصادر قوتها.
وأخيرا لا بد من ملاحظة أن الاقتصاد الرأسمالي يعتمد بشكل أساسي على الاستمرار في نمو المال وعلى الهيمنة على الأسواق وإزالة الحواجز المادية والسياسية والقانونية التي تعيق انتشار رأس المال ونموه. في المقابل فإن المبدأ القائم على الإسلام يعتمد بشكل أساسي على انتشار فكر الإسلام ودعوته في العالم ويعمل على إزالة الحواجز المادية والسياسية التي تعيق انتشار الفكر ووصوله إلى الناس. فالرأسمالية تعمل على إفلاس الشعوب ماديا وماليا. والإسلام يعمل على إثراء الشعوب فكريا وبالتالي ماديا.
كما أن النظام الرأسمالي يضمحل ويتضاءل إذا حرم من التوسع والانتشار في أموال الشعوب الأخرى. وهذا سبب كاف لتكالب الدول الاستعمارية الرأسمالية للحيلولة دون ظهور نظام عالمي جديد كدولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة حتى لا تعمل على إعاقة انتشار الرأسمال العالمي في دول العالم الإسلامي على الأقل، ما يؤدي إلى انحسار نظام رأس المال الظالم وربما موته وفنائه.
﴿كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ﴾
بقلم: د. محمد ملكاوي
رأيك في الموضوع