لا يُستغرب أن تستنفر دول الغرب لمحاربة فكرة الخلافة، ولاتخاذ إجراءات استباقية على كافة الصعد العسكرية والأمنية والإعلامية والفكرية، إذا ما شعرت بتوجه المسلمين إلى إقامتها، لأن الخلافة تعني وحدة الأمة وعزها، وتحررها من الظلم والكفر، ومن الهيمنة الغربية على بلاد المسلمين، وتعني حمل الهدى إلى العالم وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتصهر الشعوب في بوتقة العبودية لله وحده.
ولكن الذي يدعو للأسف هو أن يقوم من أبناء المسلمين، بل من المعدودين من علمائهم، بحملةٍ أو حملات استباقية ضد الخلافة، فيكونون بذلك أدوات ومطايا للذين يحاربون الله ورسوله. ولا غرابة بعد ذلك أن نرى من هؤلاء من ينكر وجوب الخلافة مستنداً إلى جهالات، أو من يفتي في قضايا عامة فيبيح المنكر ويدعو للرضا به، ثم يستبعد وجود الخلافة، مستنداً إلى تفاهات.
تقوم بعض الوسائل الإعلامية بحملة على فكرة الخلافة، تشارك فيها شخصيات تستعملها الأنظمة. ولقد ذكرنا بعض هؤلاء في أعداد سابقة. ومن ضمن هذه الحملة الكثيفة والموجهة ما قام به موقع "عربي 21" في 31 كانون الثاني/يناير 2016. فقد نشر مقالةً بعنوان: "الخلافة هل باتت من الماضي أم ستعود مرةً أخرى؟". افتتحه بقوله: "تلحُّ اتجاهات إسلامية عريضة القاعدة، واسعة الانتشار في أدبياتها وخطابها على عودة الخلافة بنموذجها التاريخي، مستندة إلى أحاديث تبشر بعودتها وفق سردية تقسم مراحل التاريخ الإسلامي إلى أربع مراحل، تأتي البشارة بعدها بالمرحلة الخامسة المنتظرة: ثم تكون خلافة على منهاج النبوة". ويمضي المقال وكأن كل مستندات وجوب الخلافة وتفاصيل نظامها هو النص: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
يتفق هؤلاء على نفس المزاعم فيما يفترون وفيما يُنكرون، مما يدل على أنهم يصدرون عن معلم واحد، يدلهم على طرائق الصد عن سبيل الله. فيتجاهلون دلائل بينةً على وجوب الخلافة، ويزعمون ما لا يليق بصاحب فقه أن يزعمه. يستهدفون الحديث الذي يقول النبي e في آخره: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة». ويشكِّكون فيه - افتراءً وجهلاً - ويزعمون بأنه هو الدليل الوحيد على وجوب الخلافة. علماً بأن هذا الحديث ليس من أدلة وجوب الخلافة، وإنما هو إخبار، وهو في أدنى حالاته حسن. ولكن أدلة وجوب الخلافة كثيرةٌ جداً، وفيها ما هو في الثبوت قاطع وفي الدلالة ناصع، ولكنهم يتجاهلون ذلك كله. وعلى فرض ضعف الحديث، فأين بصيرتهم عن قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]؟
ثم تمضي المقالة بانتقاء آراء تشكك بالخلافة أو بإمكانية تحققها اليوم، فيدلي أشخاص بآرائهم بغير أي استناد إلى دليل شرعي، وكأنه يكفي أن يكون صاحب الرأي شيخاً أو أستاذاً جامعياً. فهذا أستاذ علوم سياسية يزعم أن الخلافة مستحيلة في عصرنا بحسب فقهه للواقع الحالي، ولأنه لا يمكن أن يحكم خليفة واحد كل هذه الأعراق والقوميات! والنظام الدولي الحالي والأمم المتحدة لن تسمح بالخلافة!
إنه لمما يثير العجب، أن يُسأل في القضايا العامة والكبرى، أو أن يُعطي رأيه فيها شخص يائس، أو لا شأن له بهذه القضايا من أصلها ولا دراية، أو كل همِّه إرضاء السلطة! وإن المرء ليتذكر إزاء هذه الذرائع الهزيلة، ليلة هجرة النبي e من مكة ليلا، وقد كان فيها مستضعفاً، وكان خروجه متخفياً، ثم اختباءه مع صاحبه على الطريق في غار كي لا يدركه الطالبون. في هذه الظروف كان e على موعد بعد ساعات في المدينة المنورة مع إقامة دولة الإسلام التي ستملأ الدنيا نوراً وعدلاً. كانت ساعات أو أياماً قليلة تفصل بين وضعين متناقضين. فهل كان ذلك الواقع أقل صعوبة من واقعنا اليوم؟!
عن أي فهم للواقع يتحدث هؤلاء؟ المسألة مسألة تخطيط وإعداد لإقامة الدولة. المسألة مسألة القيام بالإعداد الذي يجعل الواقع قابلاً للتغيير، وهذا لا يفقهه اليائسون والمحبطون. فلقد كان e مستضعفاً ولكنه كان قد أعد الأمر، ولكن الذين في قلوبهم مرض يقولون مستحيل.
أما زعم الاستحالة بسبب كثرة الأعراق والقوميات، فكأن هذا الدكتور قادم من وراء الشمس، ولا علم له أن الخلافة قد حكمت كل هذه البلاد وكل هذه الأعراق والقوميات لقرون. وعلى فرض أن هؤلاء لا يعرفون تاريخ الخلافة، أفلا يرون اليوم دولةً كالصين مثلاً، شاسعة المساحة وسكانها فوق المليار وهي كثيرة الأعراق والقوميات؟! ألم يشاهدوا أمريكا تكاد تتحكم بالكرة الأرضية؟!
أما عدم رضا عالم الكفر والأمم المتحدة عن وجود الخلافة فهو معلوم. والمستغرب ذكر هذا الأمر كسبب لاستحالة الخلافة. وكأن وجوب الخلافة أو العمل لها أو قيامها مشروط برضا أمريكا والغرب! أو كأن النبي e عندما قام يعمل لإقامة حكم الله لم يكن هناك قوى في الأرض ترفض ما يريد. أفلا يكلف هؤلاء أنفسهم بأن يطلعوا على سير الأنبياء ونصوص القرآن وتاريخ البشر في عمليات الكفاح وتغيير النظم قبل أن يتحدثوا في الأمور العامة والهامة! هؤلاء، إذا قيل لأحدهم: نريد التخطيط والعمل للتخلص من هيمنة العدو يجيب: ولكن العدو لا يرضى! فبربكم هل هذا كلام يستحق أن يُستعرَض؟ أم أنه معيب بحق صاحبه وناشره والمستند إليه!
وتعرض المقالة رأياً آخر لأحد أصحاب المناصب الجامعية مفاده أن صورة الحكم الإسلامي أو الخلافة لم تكن واحدة عبر التاريخ، وبالتالي يمكن أن نستحدث أي صيغة للحكم من الصيغ المعاصرة... وهذا الكلام أيضاً لا يستند إلى علم وإنما هو ثرثرة، وهو دعوة لأي صيغة أو نظام ما عدا الخلافة. أما لماذا ذلك، ولماذا لا تصلح الخلافة اليوم؟ فلا نجد سبباً عند هؤلاء، سوى أنهم يريدون استبعاد فكرة الخلافة وصرف الناس عنها.
إن أحكام الخلافة من حيث وجوبها وكونها نظاماً مفصلاً له شكله وأحكامه مصدرها الأدلة الشرعية، وليس التاريخ ولا التجارب، لذلك فهي ثابتة. والخلافة فرض قطعي بأدلة الشرع، رغماً عن أنوف دول الكفر وعملائهم وأدواتهم وإن تسمَّوْا علماء أو مفتين أو مفكرين. أما هذه الحملات على الخلافة وعلى العمل لإقامتها فهي محاولات خائبة وسهام طائشة، وجهالات تفضح أصحابها، وليت أصحابها يتعظون ويرعوون. ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]
بقلم: المهندس محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع