قامت الطائرات الروسية، قبل نحو أسبوع، بالإغارة على حمص وحماة واللاذقية وقد تسببت بمقتل مئات المسلمين، وقامت سبع دول في مقدمتها كل من تركيا وأمريكا باستنكار الضربات وتحذير روسيا. وقد يبدو، بعد هذا التدخل الروسي، أن هناك تعارضًا حقيقيًا بين أمريكا وروسيا فيما يتعلق بالقضية السورية. وسأقوم بتوضيح القضية وبيان حقيقة المسألة إذا ما كان هناك تعارض حقيقي أم أن الأمر مجرد مسرحية تلعبانها هاتان الدولتان. ولكن أولًا، دعونا ننظر إلى كيفية تأثير هذا "التوتر" بين روسيا وأمريكا على تركيا.
لقد قام الرئيس أردوغان بزيارة روسيا، قبل هذه الهجمات، والتي انعكست أجواؤها في وسائل الإعلام أكثر من الجانب المتعلق بهذه الزيارة (افتتاح مسجد في موسكو). وبالإضافة إلى هذا، لم يُعلن في جدول الأعمال الحديث الذي جرى بين بوتين وأردوغان حول السياسة في المنطقة. وبعد عودته من موسكو، عقد أردوغان مؤتمرًا صحفيًا قال فيه إن "التحول في القضية السورية يمكن أن يكون مع الأسد". وكل مَنْ يتابع السياسة في العالم يعرف جيدًا أنه لا يمكن لتركيا أو روسيا أن تقررا واقع عملية التحول في القضية السورية وإذا ما كانت ستشمل الأسد أم لا. فأمريكا فقط هي الوحيدة التي يمكنها البت في هذا الموضوع. أما تركيا وروسيا فلا يعدو دورهما عن كونهما متحدثين باسم أمريكا في القضية السورية. وهناك نقطة أخرى يجب أن نكون حذرين جدًا حولها، فبعد أيام قليلة من بيان أردوغان هذا، استخدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما كلمات قاسية جدًا في وصف الرئيس السوري بشار الأسد. فقد وصف الأسد بأنه طاغية يذبح شعبه، وأعلن أنه لن يكون هناك دور للأسد في سوريا. هل يمكنك أن تتخيل؟ أوباما يقول إن الأسد طاغية يذبح شعبه، لكنّ أردوغان يقول إنه يمكن أيضًا أن يكون هناك انتقال يكون للأسد دور فيه. فلا يمكن تفسير حقيقة هذا الوضع إلا بعنوان هذا المقال. فحتى لو أبقت تركيا قدمًا واحدة في موسكو، إلا أن عيونها وآذانها دائمًا ما تكون في واشنطن. حتى في الوقت الذي تسعى فيه أمريكا لتقوم بتمهيد عملية التحول بحيث يشارك فيها الأسد وتقوم بإضفاء الشرعية عليه أمام المجتمع الدولي باستخدام تركيا وروسيا، إلا أنها تحاول أن تجعل العالم يعتقد زورًا أنها ضد الأسد.
أعتقد أن هذا يجعلنا نفهم بشكل أكثر وضوحًا أن تركيا ما هي إلا لعبة أمريكا في الشرق الأوسط والقضية السورية. وعلى الرغم من أن تركيا تحاول إثبات وجودها في سوريا بطريقتها الخاصة من خلال وضع قدم في موسكو، إلا أننا لا يمكن أن ننسى أبدًا أنها مع واشنطن قلبًا وقالبًا.
ودعونا أيضًا نلقي نظرة على ردود فعل أمريكا وتركيا بشأن الغارات الجوية الروسية. فقد أوضحت السلطات الروسية أن الهجمات الجوية جاءت بطلب من الدولة السورية، فقد طلبت الدولة السورية رسميًا من روسيا، حيث وافق البرلمان الروسي على منح ترخيص لبوتين للقيام بعمليات عسكرية خارج الحدود، وعلى أثرها وقعت الضربات الجوية. ولكن أولًا، وأنا أعتبر أنه من الضروري بيان ما يلي، إن روسيا لا تملك القدرة على القيام بهذه الهجمات تحديًا لأمريكا. وإن حصل هذا الادعاء فهو ادعاء فارغ. وحتى لو كان هذا الادعاء صحيحًا، فمن غير المعقول أن تقوم سوريا بطلب مساعدات عسكرية من روسيا تحديًا لأمريكا. وذلك لأن النظام السوري، تمامًا مثل تركيا، نظام مرتبط بشكل وثيق بأمريكا. فلا يمكنه القيام بأي خطوة، ولا المطالبة بأي شيء خارج المصالح الأمريكية.
ولذلك فإن روسيا لا تقوم بهذه الضربات الجوية تحديًا لأمريكا، وإنما تفعل ذلك بعلم ودعم من أمريكا نفسها. والغرض من هذه الهجمات هو إضعاف المقاومة المسلحة التي أصبحت تحيط بدمشق، قلعة النظام السوري، وإطالة وجود بقاء الأسد الذي أوشك على الانتهاء، كما هو الحال في الآونة الأخيرة، فالأسد ليس قادرًا على تجنيد المزيد من الجنود للقتال ضد الثوار. فالدعم العسكري الذي تقدمه إيران و"حزبها" ما زال غير كاف، وقد علقت هي وحزبها - إذا جاز التعبير - في دمشق. وأيضًا فإن هدنة الزبداني، التي جاءت بمبادرة من تركيا وإيران عشية عيد الأضحى، قد تم التخطيط لها وتنفيذها للغرض نفسه. فكل من الهجمات الروسية، وكذلك مبادرات التهدئة المشتركة بين تركيا وإيران، تهدفان إلى التخفيف من وطأة فشل الخطط السياسية الأمريكية في سوريا.
وأخيرًا، دعونا نتحدث عن قسوة الردود الأمريكية والتركية على الضربات الجوية الروسية. أولًا، منذ بداية الثورة حاولت أمريكا وتركيا تضليل الرأي العام كذبًا أنهم يقفون في جانب الشعب السوري والثوار، بينما أعلنت روسيا وإيران دعمهما للنظام السوري. وما زالت أمريكا تسعى إلى الحفاظ على هذا الصراع المصطنع في أذهان الناس. فهذا هو السبب الحقيقي الذي جعلها تدلي ببيانات تدين فيها قيام روسيا بضرب سوريا وقتل المدنيين. فهي تصدر البيانات التي تعرب فيها عن أسفها لمقتل المدنيين، وذلك لأن أمريكا ما زالت مستمرة في بحثها عن حل سياسي في سوريا. وثانيًا، يمكننا الحديث عن رغبة أمريكا في الحفاظ على السيطرة الكاملة على القضية السورية. وفي الوقت الذي تقوم فيه بالرد على الهجمات الروسية، تعرب أمريكا وعلنًا عن استعدادها للتعاون مع روسيا وبالتالي تدعو روسيا للانضمام إلى التحالف، مع العلم أننا ندرك تمامًا أن روسيا لن تكون قادرة على اتخاذ أية خطوة مهما كانت صغيرة دون علمها.
أما بالنسبة للردود التركية على الهجمات الروسية، فلا يسعني أن أقول عنها سوى أنها نفاق وخيانة. وذلك لأن أمريكا وقوات التحالف قد ارتكبوا حتى الآن مجازر بشعة ضد المدنيين في سوريا مرات عديدة. وعلاوة على ذلك، فقد استخدمت طائراتهم القواعد الجوية الموجودة في تركيا، وكانت تركيا تلتزم الصمت حيال كل هذه الهجمات. وقد قامت بإسكات المنظمات غير الحكومية، فالمنظمات غير الحكومية في تركيا لم تنتقد أبدًا استخدام أمريكا لقاعدة إنجرليك الجوية. غير أن تركيا الآن قامت بانتقاد الهجمات الروسية. ولكن العقول المستنيرة تدرك جيدًا أن تركيا تقوم بهذا الانتقاد ليس من تلقاء نفسها، ولكن بناء على طلب من أمريكا.
بقلم: محمود كار
رأيك في الموضوع