لا أريد في هذه المقالة الخوض في موضوع الرخصة والمصالح والضرورات والمصطلحات المشابهة المتعلقة بهذا الموضوع، فهذه مسائل أصولية لها أبواب خاصة في البحث. لكن لا بد من الذكر أن أولئك الذين عمموا هذه القواعد على كل شيء ولكافة المكونات من أفراد وجماعات ودول كانوا مخطئين، وهذا أيضا ليس موضوع فكرة المقالة.
لا شك أن قضية المسلمين الأولى اليوم هي إعادة دولة الخلافة إلى واقع الحياة لتطبق الإسلام؛ وذلك لا يكون إلا عبر عمل جماعي، ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة إذ كوّن كتلة ممن آمنوا بدعوته ثم انطلق.
والفكرة التي أحببت أن أتطرق لها في هذه المقالة هي أن التغيير وإعادة الإسلام لواقع الحياة لا يكون قطعا إلا على يد الفئة التي تأخذ أحكام الإسلام بالعزيمة ولا تأخذ في سيرها بما أطلق عليه رخص وضرورات ومصالح وغيرها (مع بقاء مخالفة أصحاب هذا الرأي في تعميم هذه القواعد).
عند ذكر موضوع التغيير فهذا يعني وجود واقع مخالف للإسلام ووجود حكام وأنظمة تحكم بالكفر. وغياب الإسلام من التطبيق يتطلب قلب المجتمع بشكل كلي وجذري في أفكاره ومشاعره وأنظمته، وهذا يعني وجود حالة صراع شرس بين دعاة التغيير والقائمين على المجتمع وأشياعهم الذين يملكون القوة والمال والسلطان، وهذا يتطلب رفض كل ما عليه المجتمع بشدة والعداء المطلق لكل القائمين عليه.
ومن هنا تدخل قضية المساومة والالتقاء والرخص والضرورات والمصالح، وما سيرة الرسول ﷺ في التغيير وكل مواقفه ﷺ ومواقف القائمين على مجتمع مكة عنّا ببعيدة. فالرسول ﷺ كان في دعوته وصراعه مع الكفر وأهله سافرا متحديا واضحا في كل الأمور وهو القدوة والأسوة لنا، فهاجم وبنقد لاذع كل العادات والمفاهيم القائمة التي تخالف الدين الجديد وشنّع على قادة القوم وعرّى حقيقتهم ولم يجعل للرخص والمصالح أي مكانة في سيره ولم يعمل على الالتقاء معهم في منتصف الطريق (تقاطع مصالح، نأخذ البعض حتى لا يفوتنا الكل، البقاء في الساحة...) كما تبرر بعض الحركات والأحزاب اليوم، بل كان موقفه أن كل ما أنتم عليه باطل وضلال ولا سكوت عنه ولا تنازل ولا ركون، وهذا الذي يجب أن يكون اليوم.
ففي فترة من فترات الدعوة أعرضت مكة والطائف عن رسول الله ﷺ وردت القبائل دعوته وزاد الإعراض عنه وأصبح وصحبه في عزلة من الناس، وهذا جعل الأمل في التغيير - من منظور بشري - شبه مستحيل، أي تجمد مجتمع مكة ومن حولها أمام الدعوة، ورغم هذا الحال والواقع إلا أن الرسول ﷺ ثبت على المبدأ ورفض كل مغريات التنازل والالتقاء بحجج مصلحة الدعوة والضرورة والرخصة.
ومواقف الرسول ﷺ هي تشريع لنا وجب التقيد بها، فمن هنا كانت قضية التنازل عن الحق أو عن بعضه أو القبول بشيء مما عليه الدول أو الالتقاء مع القائمين على المجتمع للمساومة والتفاوض بحجج مصلحة الدعوة أو الضرورة والتبرير بالرخص، كانت مخالفة للحق ولنهج الإسلام ومناقضة لنهج الرسول ﷺ في التغيير والموقف من الواقع الخاطئ، وهو إقرار بالباطل وأهله وركون للظالمين الفسقة. وهذا يعني وبشكل قاطع أن أصحاب فكرة التوافق والالتقاء مع حكام الضرار اليوم بحجج مصلحة الدعوة والضرورة قطعا سيخفقون ويفشلون في مشروع التغيير وسينتكسون على أعقابهم. ولنا في مشاركات الإسلاميين في السودان وتونس ومصر والأردن وغيرها عبرة كبيرة واضحة.
فسنة الله عز وجل في التغيير لا تكون إلا على أيدي أولئك الذين يثبتون على الحق كله ويكون موقفهم من كل هذه الأنظمة الخائنة المفاصلة الكلية، وذلك كموقف الرسول ﷺ من فكر وعادات ومفاهيم أهل مكة ومن قادتها وزعمائها إذ كانت مواقفه سافرة واضحة وضوح الشمس متحدية رافضة كل ما خالف الإسلام صغيرا كان أم كبيرا، ولنا في هذا الزمان العظة والنور في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ عطية الجبارين – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع