يتوجه المسلمون في مثل هذا الموسم من كل عام إلى المشاعر المقدسة رغم الحدود والقيود والسدود... فمن شاء الله سبحانه له الحج توجه بقلبه وجسده، ومن لم يكتب له الحج توجّه بقلبه، ولسانه يلهج بالدعاء... إنه الحج؛ مظهر بارز من مظاهر وحدة المسلمين، مهما حاول الكفار المستعمرون وأتباعهم من حكام بلاد المسلمين أن يفقدوه مضمونه، ومهما أمعنوا في تمزيق الأمة...
لم يُرَ عند أمة من الأمم مظهر يوحّد أبناءها على اختلاف ألوانهم وطبقاتهم وأصولهم كما هو عند المسلمين، ومع كثرة مظاهر الوحدة عند المسلمين يبرز هذه الأيام مظهران مهمان: الحج، وعيد الأضحى.
في مناسك الحج يرى المراقب:
- وحدة العمل، فيقومون كلهم بالأعمال نفسها، من طواف وسعي ووقوف على صعيد عرفات، والمزدلفة، ومبيت في منى، ويرمون الجمار، وينحرون ويحلقون... وكلهم يمتنعون عن الشهوات التي اعتادوا عليها... وترى الخشوع يتمثل فيهم في أروع صوره...
- ووحدة المكان، فيلتقون في مكان واحد عند البيت العتيق، والصفا والمروة، وعرفات والمزدلفة ومنى.
- ووحدة الزمان، فيبدأون أعمالهم في أوقات واحدة محددة، وتنحصر كل تلك الأعمال في أيام معدودات كما وصفها الله سبحانه وتعالى.
- ووحدة المظهر، في تلك المشاعر المقدسة يتساوى الناس في مظهرهم، لباسهم واحد، فلا فرق بين غني وفقير، ولا فرق بين أمير ومأمور أو حاكم ومحكوم، ويبدو التساوي بين أبناء الطبقات الاقتصادية والمجتمعية والسياسية والعرقية وغيرها.
- ووحدة القول، حيث يرددون كلهم تلبية واحدة، ويكبّرون ويسبحون ويهلّلون، ويدعون رباً واحداً، ويتلون كتاباً واحداً...
- ووحدة الشعور، ذلك الشعور بالضعف أمام القوي سبحانه، والعجز أمام القادر عز وجل، والنقص أمام القادر جل جلاله، والاحتياج أمام الغني تقدست أسماؤه، كلهم يسأل الله الرحمة والمغفرة، حتى يعود من رحلته كيوم ولدته أمه.
كل تلك المظاهر تنبئ عن وحدة الفكر بين الملايين ممن قدموا من شتى بقاع الأرض، ولو لم يُحَلْ بين باقي المسلمين وبين الحج لرأيت عشرات الملايين يلتقون في صعيد واحد، يعبدون رباً واحداً.
ولو وسّعنا الدائرة أكثر وأكثر لرأينا بقية المسلمين في عيدهم، تتجلى فيهم مظاهر الوحدة، ومن مظاهر وحدة المسلمين في عيدهم:
- صلاة العيد، التي تجمع المسلمين صفوفاً كالبنيان المرصوص، يصافح بعضهم بعضا ويهنئ بعضهم بعضاً بالعيد.
- زيارات العيد بما تتضمنه من صلة للرحم والقربى، والتآخي بين المسلمين بزيارة بعضهم بعضاً...
- الأضحية، التي تتجسد فيها معاني الوحدة بين المسلمين، فيصل غنيُّهم فقيرَهم، ويصل القريبُ قريبَه... وهي تذكرنا بصدقة الفطر في عيد الفطر لتؤكد كل منهما أن العيد شأن جماعي يهم المسلمين جميعاً، ولا يتوقف الأمر عند الأفراد، لتكون مظهراً بارزاً من مظاهر وحدة المسلمين.
إن كل تلك المظاهر الجزئية التي تتضح في كل من العيد والحج تشكّل مظهراً كبيراً بارزاً لهذه الوحدة، بدأت منذ بعث رسولُ الله e أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج في السنة التاسعة للهجرة، ثم أتبعَه عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه بسورة براءة، التي تحدّد الموقف الشرعيَّ النهائي من المشركين، وعدم جواز قربهم المسجد الحرام بعد عامهم ذاك، وكذلك تحدّد جزءاً من العلاقات الخارجية لدولة الإسلام مع كيانات الكفر الأخرى، بإتمام عهد كل ذي عهد إلى مدته، وإمهال من ليس له عهد أربعة أشهر، فكان ذلك الموسم إيذاناً بتمايز الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي عن غيرهما من الأمم والمجتمعات وفي ذلك تقرير لوحدة المسلمين في كيان سياسي واحد...
ثم تلا ذلك الموسمَ الذي كان بإمارة أبي بكر، تلاه موسم آخر بقيادة الرسول الكريم e في حجة الوداع، وفيها كانت الخطبة المشهورة التي أكدّت تمايز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات بمفاهيم وأحكام شرعية تنزّل بها الوحي لتوحد المسلمين فكراً وشعوراً، عملاً وقولاً. وفي تلك الخطبة تقررت قواعد المساواة بين البشر بقوله e: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرابٍ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى» فأكدت الخطبة وحدة الخالق ووحدة الأصل البشري، وقررت مقياس التفاضل بين الناس عند الله سبحانه وتعالى بأنه التقوى، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بهذا المقياس، فكانت الخطبة إيذاناً بوحدة المسلمين في كيان سياسي واحد ومقاييس شرعية واحدة.
ومع أن الحج مظهر بارز من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، لكن هذا المظهر لا ينفصل عن المظهر الأكبر لوحدة الأمة، إنه الكيان السياسي الواحد الذي ظهر في فعل الرسول e في الحجتين المذكورتين في السنة التاسعة والعاشرة للهجرة، بأن يكون الحج بإمارة حاكم المسلمين أو من ينيبه عنه، فقد كان رسولُ الله e رئيساً للدولة الإسلامية التي كانت عاصمتها المدينة المنورة مع كونه نبياً ورسولاً، يحكم بالإسلام، وينظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم في الداخل، وينظم علاقاته مع الكيانات السياسية الأخرى بأحكام الإسلام، وسار على ذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدَهم على ذلك، يجمعون المسلمين في كيان سياسي واحد ودولة واحدة... حتى قضي على تلك الدولة في الربع الأول من القرن الماضي... ومُزّق المسلمون في كيانات سياسية متعددة تتحكم فيها دول الكفر، ويرسمون بينها الحدود، فلم يعودوا أمة واحدة من دون الناس، ورأينا الحج يفقد بعضاً من مضامينه في غياب دولة المسلمين الواحدة، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فلا يترأسه أمير المؤمنين خليفة المسلمين، أو من ينيبه عنه، وفقد الحجيج الراعي الحقيقي لشؤون حجهم كما فقد المسلمون الرعاية الحقيقية في غياب دولة الخلافة...
وفي الختام، فلا بد للمسلمين كي يعيدوا للحج مضامينه، وللأمة الإسلامية حسن الرعاية، وللمسلمين هيبتهم في كيان سياسي واحد، أن يعملوا لإقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، ويتوجب على أهل القوة والمنعة فيهم أن يعطوا النصرة لحزب التحرير ليقيم هذه الدولة، فتعود للمسلمين هيبتهم، وللحج رونقه وبهجته.
رأيك في الموضوع