انطلقت ثورة الشام المباركة قبل ثلاثة عشر عاما بدون قيادة تُسيّرها، رغم وضوح الأهداف في شعاراتها، فقد كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو المحدد للهدف الأساس للثورة، وأما القيادة فقد اختار أهل الشام أن تكون القيادة لدين الإسلام فعبروا عن ذلك بقولهم "قائدنا للأبد سيدنا محمد".
وعليه فإن كل من تسلّم قيادة شيء في الثورة كان لا بد أن يلتزم أحكام الشريعة وفرائض الإسلام، ولهذا وُجدت قيادات كثيرة رفعت راية رسول الله ﷺ ولواءه، وتبنّت قيام دولة إسلامية بعد إسقاط النظام، رغم اختلاف التوجهات والرؤى، إلا أن الجامع لكل ما طُرح في ثورة الشام أنه كان يعتمد على الأحكام الشرعية، حتى أولئك الذين تبنّوا العلمانية أو صرحوا بسعيهم لبناء دولة مدنية، كانت لهم تبريراتهم من الشريعة الإسلامية، ولم يطرحوا مشاريعهم إلا وقد غلفوها بالإسلام ولو اسماً.
إلا أن سنين الثورة كانت كافية لكشف كل طرح ادّعى وصله بالإسلام على حقيقته، حيث تمكن الثوار في الشام من خوض تجارب مريرة مع الطروحات المختلفة التي عُرضت عليهم، كلّفتهم الكثير من الدماء والتضحيات، فقد أقبل أهل الشام راغبين على كل من رفع شعارات الإسلام، وقدموا فلذات أكبادهم وأموالهم وسخروا كل طاقاتهم قاصدين رفعة هذا الدين، مبتغين رضا رب العالمين.
لكن حُسن نواياهم لم يكن كافياً لتحقيق النصر والعودة بالظفر، بل على العكس تماماً فقد استغل المتسلقون أو الجاهلون حسن النوايا، فظهر الفشل على بعض القيادات التي وُسدت أمراً ليست له أهلاً، حيث افتقدت الرؤية الواضحة والمشروع المبلور ولم تؤهل لقيادة ثورة عظيمة تواجه أعتى الأنظمة وأكثرها إجراماً، وفي الوقت نفسه استغلت قيادات مرتبطة بالغرب وعميلة له، فقادت أهل الثورة إلى حضن النظام المجرم، فكانت على رأس المناطق حين تسليمها، ومنهم من أعلن عمالته وعودته لأسياده، ومنهم ما زال يمارس خديعته حتى الآن.
أمام هذه الجَوقة من القيادات كان لأهل الشام مواقف متباينة، لكن أوضحها وأسرعها كان الموقف من القيادة السياسية التي صنعتها أمريكا في الدوحة، وسمّوها "الائتلاف الوطني"، ورغم أن أمريكا اختارت لقيادة الائتلاف شخصية متدينة (الشيخ) معاذ الخطيب، إلا أن رفض الائتلاف كان واضحا في مواقف أهل الثورة عموماً، أولها مظاهرات عارمة بُعَيد تشكيل الائتلاف في جمعة سُمّيت "القرار للثوار" وهتفت بإسقاط الائتلاف، رافقتها بيانات من تشكيلات كثيرة ترفض هذه القيادة الواضح ارتباطها.
وفي هذا السياق قادَ الثورة قادة أغرار لم يكونوا على قدر المسؤولية، فكان من السهل خداعهم، أو التخلص منهم إن حاولوا عرقلة الحلول الاستسلامية التي سعت أمريكا لفرضها على أهل الشام، وإلى جانبهم وُجد قادة مخادعون ارتضوا السير في ركاب الداعمين، وأتخموا أهل الثورة بشعاراتهم البراقة، وكلما تمكنوا من إحكام السيطرة على الثورة ظهر للناس مدى ارتباطهم، وانفضح أمام أهل الثورة خطر وجودهم.
وهنا وصلت الثورة وأهلها إلى مرحلة اللاثقة؛ اللاثقة بأي جهة تطرح نفسها لقيادة الثورة، اللاثقة بأي مشروع، اللاثقة بأي شخص، وهذه المرحلة وإن ظنّ البعض أنها خطيرة، ففقدان الثقة يجعلنا نتوقف في منتصف الطريق وربما نتوقف قبيل بلوغ الهدف بقليل، إلا أن هذه المرحلة قياساً بما سبقها من مرحلة الثقة بمن يرفع الشعارات فحسب، أو مرحلة الثقة بشخصيات ليست كفؤة؛ إلا أنه لا يصحّ الوقوف عند هذه المرحلة مطلقاً، بل لا بد أن يكون هذا الوقت هو وقت معرفة معايير القيادة الصحيحة، والبحث عمن هو أهل لأن يقود الثورة ويكون بمستوى تضحياتها، ويأخذ بيدها إلى بر الأمان وشاطئ النصر رغم كل هذه الأمواج العاتية.
إنه لمّا واجه بني إسرائيل عدوٌ لهم سألوا نبيهم أن يأتيهم بملِك عليهم، فأخبرهم نبيهم أن الله اختار لهم طالوت ملِكاً، فقد أوتي بسطة في العلم والجسم، وإن الواجب على أهل الثورة أن يسألوا نبيهم محمداً ﷺ الذي اتخذوه قائداً لثورتهم، ويجعلوا ما ورد عن رسول الله ﷺ معياراً ومقياساً لمن يستحق أن يقود هذه الثورة، فقد نهانا رسول الله ﷺ عن توسيد الأمر لغير أهله، كما أخبرنا عن الله سبحانه وتعالى أن نميز الصادقين من الكاذبين، ثم نجمع أمرنا على من صدَقنا، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ﴾.
رأيك في الموضوع