تحدثنا في الحلقة الماضية عن فضائل مصر الكنانة، وعن تاريخها المشرف عبر العصور، وعن ذكرها وأهلها بالخير في أحاديث المصطفى ﷺ. ووصلنا إلى موضوع العلم والعلماء في تاريخ مصر عبر القرون المتتابعة وفي زماننا الذي نعيشه.
فقد زخرت مصر الكنانة بالعلماء الأفذاذ، عبر التاريخ الإسلامي الطويل منذ الفتح وحتى يومنا هذا، وقد كانت قبلة العلم والعلماء؛ حيث كانت من الحواضن الأربع التي اشتهرت باحتضان العلم والعلماء في تاريخ المسلمين الوضاء؛ وهي العراق ومصر والشام والأندلس. وكان لبعض العلماء رأيان في مذاهب الفقه؛ نتيجة توسّع علمهم في أرض الكنانة وهما: مذهب مصر ومذهب العراق، كما حصل مع الإمام الشافعي رحمه الله. وقد تعدد العلماء في مصر في جميع المجالات؛ في الطب والبصريات والفلك والفقه والحديث والتفسير، واللغة وغير ذلك. وقد صنف أحد علماء مصر في القرن الخامس الهجري كتابا جمع فيه علماء مصر، وصنفهم حسب الأحرف الهجائية، وجمع فيه المئات من العلماء على مرّ التاريخ الإسلامي في مصر، والكتاب هو "تاريخ علماء أهل مصر" لابن الطحّان حيي بن علي بن محمد بن إبراهيم الحضرمي المتوفى سنة 416هـ. لقد اشتهر من هؤلاء العلماء الإمام الشافعي، وهو من جمع بين المعقول والمنقول في الفقه، وألف كتابا في أصول الفقه سماه "الرسالة"؛ حيث عاش معظم وقته في مصر، وتعدّد تلاميذه هناك واشتهر مذهبه؛ وأشهر علماء المذهب هم من مصر، أمثال: البويطي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، والمزني أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى، والربيع بن سليمان المرادي، وأبو حفص حرملة بن عبد الله التجيبي. وكان من علماء مصر في الطبيعيات والعلوم المدنية: ابن الهيثم عالم البصريات المشهور، وأشهر كتبه كتاب "المناظر"؛ حيث كان أساساً في علم الفيزياء والبصريات لمن جاء بعده. وابن منظور محمد بن مكرم بن علي بن منظور؛ عالم اللغة ومؤلف كتاب "لسان العرب"؛ وهو أوسع معاجم اللغة العربية. والإمام السيوطي من علماء التفسير؛ حيث جمع في أسلوبه بين المأثور (الرواية) والدراية. ومن علماء الحديث الإمام العسقلاني؛ حيث ولد بمصر وتوفي فيها؛ وهو أشهر من شرَح صحيح البخاري.
ومن العلماء الأفذاذ في العصر الحديث هناك العشرات ممن ساهموا في الثروة الفكرية العلمية في كل المجالات؛ الدينية والعلمية المدنية، وفي حركات التغيير والنهضة وغير ذلك. ومن هؤلاء العلماء: الشيخ مصطفى صادق عبد الرزاق الرافعي، وهو صاحب الكتابات النقدية المشهورة وله الكتاب المشهور "تحت راية القرآن"، وكتاب "تاريخ آداب العرب". وعباس محمود العقاد، وهو أديب وشاعر، وله مؤلفات عديدة منها "الإسلام والحضارة الإنسانية"، و"الإنسان في القرآن"، و"التفكير فريضة إسلامية". وسيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي؛ وهو مؤلف كتاب "في ظلال القرآن"، وهو من الرجال الذين عملوا على التغيير على الظلم والظالمين، وأعدم بسبب مواقفه الصلبة. ومنهم في مجالات العلوم المدنية: فاروق الباز عالم الفضاء المشهور، وزغلول النجار عالم طبقات الأرض، ومجدي يعقوب أخصائي جراحات القلب والرئتين وهو من أشهر أطباء العالم، وأحمد زويل الكيميائي الشهير، وسميرة موسى عالمة الذرة المصرية؛ التي قتلتها المخابرات الأمريكية عندما رفضت البقاء هناك.
وقد عاش كثير من العلماء في مصر؛ سواء من عاش منهم قديما ورحلوا في طلب العلم من حواضر البلاد الإسلامية كالشام والعراق والأندلس، أو من درسوا في مصر في العصر الحديث، وكانوا من دعاة النهضة للبلاد الإسلامية؛ مثل العالم الجليل محمد بن إبراهيم النبهاني؛ المشهور بتقي الدين النبهاني الذي عاش فترة علمه الأولى في مصر متنقلا بين الأزهرية الثانوية، وبين الأزهر الشريف، وبين دار العلوم، حوالي سبع سنوات من الاستقاء من ينابيع العلم والعلماء المشهورين في ذلك الوقت.
لقد كان لمصر حظ وافر في الثورة ضد الاستعمار الغربي في العصر الحديث في بدايات القرن الثامن عشر، أي في عهد الغزو الفرنسي بقيادة نابليون، ثم الغزو الإنجليزي من بعده. ثم كان لها أيضا تاريخ مشرف في الوقوف ضد الاستعمار في بدايات القرن العشرين وأواسطه؛ بعد أن مزّق المستعمرون بلاد الإسلام مباشرة بعد هدم الخلافة سنة 1924م، فقد وقعت مصر تحت الاستعمار الفرنسي في عهد حملة نابليون سنة 1798م، والحملة البريطانية سنة 1822م. وقد برزت قيادات منافحة عنها ضد الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي؛ منهم علماء الأزهر عام 1798م الذين ثاروا ضد الاحتلال الفرنسي، وأعدمهم الفرنسيون في ساحة القلعة؛ وكان منهم الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، وكان من علماء الأزهر وطلابه: الشيخ سليمان الحلبي الذي قتل القائد الفرنسي كليبر. وتتابع الأمر كذلك ضد الاستعمار الإنجليزي بعد الاستعمار الفرنسي، فكانت ثورة 1919 العارمة ضد الاحتلال الإنجليزي، واستمرت حتى سنة 1922 وكان للأزهر دور بارز فيها.
لقد واجهت مصر مؤامرات عديدة بعد احتلال يهود لفلسطين، وكان من هذه المؤامرات حروب عدة، حصلت فيها مؤامرات على الجيش المصري؛ منها حرب سنة 1948 مع الجيوش المشتركة ضد العصابات اليهودية تحت حماية الإنجليز، وكانت مقدمة لإعلان قيام كيان يهود، والاعتراف به عالميا، والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 واشتركت فيه كل من فرنسا وبريطانيا وكيان يهود، ثم حرب سنة 1967، حيث احتل يهود جزءاً كبيرا من سيناء، وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان. ووجه يهود للجيش المصري ضربات مدمرة خاصة سلاح الطيران. ثم كانت حرب سنة 1973 والتي حول فيها الاستعمار وأدواته النصر الذي حققه الجيش المصري في البداية إلى هزيمة؛ كمقدمة للدخول في عملية مصالحة بين مصر وكيان يهود. وقد كانت معاهدة كامب ديفيد سنة 1973 تتويجاً لهذه المؤامرات المتسلسلة على الجيش المصري وعلى مصر بشكل عام. واستمرت المؤامرة بسلخ أجزاء من مصر، وضمها لكيان يهود الغاصب.
لقد نظر الغرب إلى مصر نظرة خاصة تختلف عن باقي البلاد الإسلامية، ووضعوا لها خططا بعيدة المدى، تستهدف دينها، والجماعات الإسلامية، وتستهدف تجويع وتدمير أهل مصر، والسيطرة على ثرواتهم ومقدراتهم. وازدادت الحملة على مصر بعد ثورة عام 2011؛ والتي كانت هبة جماهيرية غاضبة ضد أدوات الاستعمار، وضد الظلم وضد حملات التغريب عن الإسلام. ومما فاجأ الغرب وجعله يحسب الحسابات، ويضع الدراسات والخطط لأرض الكنانة ما حصل في ميدان التحرير سنة 2012؛ عندما احتشد الناس، ونادوا بتطبيق الشريعة، وكادت الأمور تنفلت من أدوات الاستعمار، وتتجه الثورة اتجاها صحيحا لولا ما حصل من تضليل ومؤامرة كبرى، وما جرى من قمع رهيب للمسلمين بعد ذلك.
إن الغرب اليوم ينظر بخطورة بالغة إلى ما يجري من تحولات على أرض الكنانة، ومن اتساع دائرة الفقر، ودائرة الظلم بالسجون والتعذيب والقهر. ويمكن تشخيص الوضع اليوم في أرض الكنانة بالأمور التالية:
يتبع...
رأيك في الموضوع