إنه نور سطع في السماء، فبدد الظلام، وأنار الأرض ومن عليها، وإنا لندري أنه أراد بهم ربهم رشدا، فحق العذاب على من كفر وتولى، وحقت الجنة لمن آمن واتقى.
إن ميلاد النبي محمد ﷺ لحدث عظيم غير مجرى التاريخ، به ولدت أمة أصبحت من أعرق الأمم وأرقاها، وبه ولدت دولة أضحت من أعظم الدول وأقواها. أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن دياجير الجهل إلى أعلى المراتب في العلم والفكر والخلق. أوجد حضارة راقية، ومدنية رفيعة، ونهضة صحيحة. فتحقق التقدم والإبداع في كافة المجالات.
يتيم عائل أميّ يوجد مثل ذلك! أيعقل ذلك؟! لم يعرف الفكر ولا الفلسفة، ولم يتعلم الأديان والثقافات من قبل، ولم يتعلم القراءة والكتابة! كيف يحصل ذلك من شخص بهذه الحال؟! بلى إنها للنبوة حقا لا غير! وإلا فلا يمكن لمثله وبهذه الحال أن يتمكن من فعل ذلك.
فرد أعزل لا يحمل سلاحا، لا معين له ولا نصير، ولا مقام له يستقطب به الناس، ولا مال يشتري به الأعوان والخصوم. ولم يؤمن به إلا الضعفاء والفقراء ومتواضعو الحال الذين لا حول لهم ولا قوة، يستخفون بدينهم خوفا من أن يتخطفهم الناس، فكيف يقيم بهم دولة؟!
أسس بهم كتلة أقبلوا على الإسلام بكل لهف وشغف، وأقبلوا يتعلمون ويتثقفون على يديه الطاهرتين بكل حب وعشق، لا يستطيعون أن يفارقوه لولا حاجة النوم وحاجة العيال لمن له عيال. فهيأهم للمرحلة التالية مرحلة التفاعل والصدام مع فكر الجاهلية العمياء والصراع مع صناديد قريش، فيها الابتلاء والامتحان، فتعرضوا لأشد أنواع العذاب على يد الكفار، ولكنهم صبروا وثبتوا وما بدلوا تبديلا، فأصبحوا حزبا متكاملا مستعدا لأن يقود دولة.
علم الله ما في قلوبهم من صدق وإخلاص وثبات واستعداد للتضحية، فأوحى إلى قائدهم أن يطلب النصرة، وقد وعده بالنصر والتمكين، ولكنه فرض عليه السعي والأخذ بالأسباب والمسببات، فلا يأتي النصر على طبق من ذهب، وإنما يأتي بعد تمحيص وابتلاء. فطرق الأبواب، وكلّم قادة الأقوام، فصده من صد، واشترط عليه من اشترط، ولكنه أبى إلا أن يأخذ نصرة خالصة لله، ولصاحبها الجنة. فساق الله له أهل النصرة، فأقام الدولة، وعقد الألوية، وجاهد في الله حق جهاده.
عشر سنوات وهو حاكم يبني في الداخل ويجاهد في الخارج، فقد بلغت المعارك والغزوات التي قادها بنفسه نحو 29، وبلغت السرايا التي بعثها نحو 100، كما روى ابن حجر العسقلاني. هكذا تبنى الدولة؛ عمل في الداخل بأحكام الإسلام، وحمل له في الخارج بالجهاد.
من أين تعلم هذه الطريق؟! تأسيس حزب وتكتيل وتنظيم وتثقيف وخوض صراع فكري وكفاح سياسي وطلب نصرة وطلب بيعة وإعلان دولة! ومن ثم رسم سياسات داخلية وخارجية وتعليمية وحربية ووضع أنظمة حكم واقتصاد واجتماع! أنى له ذلك؟! حقا، كل ذلك وحي لا غير، وإلا فإن ذلك لا يدخل العقل بأن يفعل كل ذلك من هو بهذه الحال وبين قوم بمثل قومه بعيدين عن الفكر والعلم والفلسفة والثقافات والأديان. يصنع منهم أمة ويقيم بهم دولة تهزم أعظم الدول وتسود العالم قرونا!
فوجب عقلا اتباع طريقه واقتفاء سيرته، فكيف والأدلة قاطعة بوجوب الاقتداء به؟!
فمن زعم حب النبي ﷺ فليقتد به ويتخذه أسوة، فليعمل لإعادة بناء دولته التي هدمها الكفار قبل مئة عام. فإحياء ذكرى مولد النبي ﷺ ليس بإقامة الحفلات والمهرجانات وإلقاء القصائد والأناشيد وتوزيع الحلويات ورقص المولويات، وإنما بالسير في طريقه خطوة خطوة وحذو القذة بالقذة لا انحراف عنها قيد أنملة.
فالنبي ﷺ لم يكن مبلغا فحسب، بل كان حاكما ورئيس دولة يحكم بما أنزل الله، وقائد جيش يقاتل في سبيل الله، وسياسيا عظيما، يرسم الخطط، ويعقد المعاهدات والهدن، ويعلن القتال ويقود المعارك ويعقد الألوية للقادة، ويعين المعاونين والولاة والموظفين ويقيلهم، ويقبل السفراء ويرفضهم.
كان يبلغ الإسلام ويعلمه للناس لا تعليما مدرسيا أكاديميا أو حشوا للمعلومات في الدماغ أو إلقاء مواعظ تدمع بها العيون وكفى، بل منزلا أحكامه على الوقائع، معالجا بها المشاكل، محققا بها المصالح ودارئاً بها المفاسد، ليسعدهم في الدنيا والآخرة. يفقههم في الدين لعلهم يحذرون، لا ليكونوا كتبا متحركة أو أسطوانات مضغوطة أو علماء لا يعملون بعلمهم.
جاء بدين كامل متكامل شامل، في كتاب من الله تبيانا لكل شيء، بيّن مجمله، وخصص أو قيد بعض ما جاء فيه عاما أو مطلقا، وألحق فرعا بأصل فيه، أو جاء بحكم لم يرد فيه، فكل ذلك وحي من الله. فاكتملت مصادر الشريعة بسنته مع الكتاب.
ألم يلفت كل ذلك نظر الذين يحبون النبي ﷺ؟! ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله فيعودوا إلى صوابهم فيعملوا كما عمل؟! ألم يرفض ﷺ المشاركة في الحكم في ظل نظام الكفر؟! ولكنه أصر على أن يأخذ الحكم كاملا وقال مقولته الشهيرة «حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ دُونَهُ» وذلك في موقف مبدئي؛ إما سيادة الإسلام وإما الموت في سبيله.
هل طلبَ النبي ﷺ أن يحتفلوا بذكرى ميلاده بالأهازيج والزغاريد والرقصات والطبول والدفوف، وكان الآمر الناهي لو أراد ذلك؟! أم أنه كان يحتفل بالانتصارات تلو الانتصارات وبنزول الآيات وتطبيقها على أرض الواقع وإيجاد علاج للمشكلات؟! ألم يقل أحد اليهود للخليفة الراشد عمر إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو نزلت علينا نحن معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا وأشار إليها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَـكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمۡ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَـكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً﴾؟ إن الكفار قديما وحديثا أدركوا قيمة هذا الدين وعظمته وكماله وتكامله وأنه مبدأ شامل، ولكنهم لم يؤمنوا به إما عنادا، وإما حسدا من عند أنفسهم، أو حرصا على مصالحهم وزعاماتهم، أو إصرارا على اتباع أهوائهم وشهواتهم. ولهذا فهم يحاربونه ويحاربون من يعمل لإعادة دولته التي ستقوم رغما عنهم كما بشر بها النبي الكريم ﷺ «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، إي وربي، إنها لقائمة، ولكن حتى يأذن الله، لأن مبشراته صدق، كيف لا، وهي وحي من الله عالم الغيب والشهادة. فطوبى للعاملين وحسن مآب.
رأيك في الموضوع