يُعَدُّ السودان أرض الذهب منذ آلاف السنين، وبخاصة في منطقة جنوب ووسط الصحراء النوبية، وحتى تلال البحر الأحمر، وبصورة كبيرة في مناطق ود العلاقي، ووادي قبقبة وغيرهما، حيث كانت الممالك القديمة تقوم بالتعدين في هذه المناطق بأدوات بسيطة، ولأعماق غير بعيدة في باطن الأرض، واسم النوبة لسكان هذه المناطق يعني أرض الذهب، وما زال في اللغة النوبية اسم الذهب هو (نوب).
وليست هذه المناطق وحدها التي تحتوي على الذهب؛ ففي أغلب أصقاع السودان يوجد الذهب، فهو موجود في جنوب النيل الأزرق، وفي غرب السودان في مناطق جبال النوبة، وفي دارفور وبخاصة منطقة حفرة النحاس. ولكن رغم هذه الثروة الضخمة من الذهب لم تهتم الحكومات المتعاقبة باستخراجه، والاستفادة من عائداته إلا بعد انفصال جنوب السودان، وذهاب البترول الذي كان يشكل أكثر من 80% من ميزانية الحكومة، فاتجهت الحكومة وقتها للاهتمام بالذهب، حيث كانت تشتريه من المعدنين التقليديين وتصدره، ثم سمحت للشركات بالدخول للتنقيب، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الحديث عن تهريب الذهب، وتضاربت الأرقام حول الكميات المستخرجة منه.
وفي الآونة الأخيرة بدأ الاهتمام الإعلامي بما يحدث من سرقة ذهب السودان، وبخاصة إلى روسيا، فقد ذكرت صحيفة التليغراف البريطانية في تقرير لها في حزيران/يونيو 2022م، أن روسيا هربت مئات الأطنان من الذهب من السودان على مدار الأعوام السابقة. كما ذكرت صحيفة الأناضول أن وزير الثقافة والإعلام السابق حمزة بلول نشر على صفحته عبر فيسبوك، نقلاً عن تقرير مشترك أعدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا، وفريق الاتحاد الأفريقي جاء فيه: "وجود عجز يبلغ 13.5 مليار دولار بين بيانات الحكومة والدول التي استوردت الذهب والنفط من السودان خلال الفترة من 2013م وحتى 2018م".
أما التقرير الذي أعدته قناة ـCNN الأمريكية عن سرقة الذهب من السودان، فكان تقريراً صادماً وخطيراً، حيث جاء فيه أن الذهب المهرب إلى روسيا تبلغ قيمته 13.4 مليار دولار سنوياً عبر الشركات الروسية العاملة في التنقيب عن الذهب عبر مهابط طائرات في الصحراء من دون المرور بالإجراءات الرسمية، وأثار هذا التقرير سخطاً لدى الناس الذي يكتوون بنيران الغلاء الفاحش، وثروات بلادهم تسرق بتواطؤ من الحكومة. وفي هذا الصدد كتب رئيس تحرير صحيفة التيار الأستاذ عثمان ميرغني مقالة عبر عموده بتاريخ 30 تموز/يوليو 2022م جاء فيها: "ربما يكون الرقم المذكور في التقرير أقل كثيراً من الحقيقة لكن لطالما لا يوجد أحد قادر على رؤية ما يخرج من باطن الأرض ثم يطير مباشرة إلى الخارج، فإن أي رقم يذكر يكون قابلاً للتصديق، وتبقى القضية الأهم هي كيف تستباح ثروة هائلة مثل هذه في بلد يكاد يحتاج لكل دولار ليقابل عجزاً مهولاً في نفقاته الضرورية مثل الغذاء والدواء بل وحتى تمويل الخدمة المدنية الضخمة؟".
حاولت الحكومة التقليل من هذا التقرير، إلا أنها وللأسف أثبتت أن هناك تهريباً للذهب، وسرقة له، ولكن ليس بالأرقام التي ذكرت، حيث وصف المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية مبارك أردول تحقيق شبكة قناة CNN الأمريكية حول تواطؤ روسيا مع القيادة العسكرية لتهريب ما تساوي قيمته مليارات الدولارات من الذهب بغير الدقيق في بعضه، وأرقامه مضخمة، بل خيالية، فلم ينف الوزير ما ورد في التقرير من سرقة الذهب عبر الصحراء بطائرات روسية، بل تحدث عن الأرقام بأنها غير دقيقة ومضخمة! والأدهى والأمرّ أن الحكومة تحارب شباب السودان الذين ضيقت عليهم سبل كسب الرزق، فذهبوا بالآلاف للتعدين في مناطق الذهب، وذلك بطردهم من بعض المربعات لإعطائها للشركات الناهبة لذهب السودان، ويؤكد هذا الفعل الشائن الذي يشبه هذه الأنظمة العميلة، ما أورده المدير التنفيذي لشركة أوركا جولد الكندية ريتشارد كلارك الذي قال: "إن من العوامل المشجعة هو أن الحكومة السودانية التزمت بما وعدت به، وهو إخلاء المربع من كل أشكال التعدين العشوائي التي هجمت عليه، وإن الحكومة تمكنت خلال الثلاثة أشهر الماضية من إخلاء الآلاف من المعدنين العشوائيين من المنطقة دون أي حوادث أو صدامات". (سودان تربيون 23/07/2022م).
إن الذهب الموجود في أغلب مناطق السودان يعتبر من المعادن العد التي لا تنقطع، لأنها غير محدودة المقدار، فإنها تعتبر ملكية عامة لجميع المسلمين، ولا يجوز أن يختص بها فرد أو أفراد، كما لا يجوز إعطاء امتياز استخراجها لشركات كما هو حادث اليوم في السودان، بل يجب أن تبقى ملكية عامة لجميع المسلمين مشتركة بينهم، وأن تقوم الدولة باستخراجها، وتنقيتها، وصهرها، وبيعها نيابة عنهم، ووضع ثمنها في بيت مال المسلمين للصرف على مصالح الأمة حتى لا تكون رهينة لأعداء الأمة تستقرض منهم كما هو حال بلادنا اليوم.
والدليل على ما ذكرنا أن الذهب غير محدود المقدار يعتبر ملكية عامة ما روي عن عمرو بن يحيى بن قيس المازني عن أبيه عن أبيض بن حمال قال: «اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَعْدِنَ المِلْحِ بِمَأْرِبَ فَأَقْطَعَنِيهُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعَدِّ - يعني أنه لا ينقطع - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَلاَ إِذَنْ» أخرجه النسائي، والماء العد: الذي لا ينقطع. شبه معدن الملح بالماء لعدم انقطاعه. وليس المراد هنا الملح وإنما المراد المعدن بدليل لما علمه أنه لا ينقطع منعه، مع أنه يعلم أنه ملح، وأقطعه من أول الأمر، فالمنع لكونه معدناً لا ينقطع، قال أبو عبيد: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلْنَبِيِّ ﷺ أَنَّهُ مَاءٌ عَدٌ ارْتَجَعَهُ مِنْهُ، لأَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الكَلأِ وَالنَّارِ وَالْمَاءِ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعاً فِيهِ شُرَكَاءُ، فَكَرِهَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِرَجُلٍ يَحُوزُهُ دُونَ سِواهُ».
هذا الحكم وغيره من الأحكام الشرعية التي توجد الحياة الكريمة للأمة، وتحفظ ثرواتها ومقدراتها لتكون لمصلحة الأمة، وليس نهباً للأعداء، لا تكون إلا في ظل دولة الإسلام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة فرض هذا الزمان الغائب، الذي يجب على الأمة العمل لإيجادها، مرضاة لله، وحفظاً للأمة من أعدائها وسراق ثرواتها.
* الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع