في مثل هذه الأيام وفي العاشر من شباط لسنة 1918م؛ كانت وفاة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله. وإذا ذكر السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله ذكرت ثلاثة أمور مهمة؛ أولاها: المحافظة على وحدة الخلافة، وأحكام الإسلام؛ والدفاع عنها مقابل الهجمة الغربية لعلمنة الدولة، وإدخال القوانين الغربية، والثاني: منع اليهود من الهجرة والسكنى، وشراء الأرض داخل فلسطين، والثالث: التصدي لمحاولات الحركة الصهيونية؛ لشراء جزء من أرض فلسطين لإقامة وطن لليهود عليها. ففي سنة 1896 شكل هرتزل زعيم الحركة الصهيونية وفدا رفيع المستوى إلى السلطان عبد الحميد؛ في إسلامبول، وطلب الوفد برئاسة السفير النمساوي نيولنسكي من السلطان بيع أو استئجار قطعة أرض على مقربة من القدس؛ مقابل سداد الديون المستحقة على الدولة بسبب الحرب. فكان رد السلطان شرعياً وقوياً تجاه هذه المحاولات الخبيثة؛ حيث قال لهم: "لا أستطيع أن أتخلّى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض، ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزّقت دولة الخلافة يوما؛ فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي؛ فإن عمل المبضع في بدني، لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة؛ وهذا أمر لا يكون، إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
وعندما فشلت الجهود الصهيونية قام ثيودور هرتزل سنة 1897 بدعوة اليهود في جميع أنحاء العالم إلى الاجتماع في مدينة بال السويسرية؛ لمناقشة قضية الوطن اليهودي، وفي نهاية المؤتمر اتفق المجتمعون على ضرورة جعل فلسطين (الوطن اليهودي الخالد والأبدي)، ومن أجل تحقيق هذا الهدف اتخذ المؤتمر بعض القرارات مثل:
1- تشكيل المنظمة اليهودية العالمية بقيادة ثيودور هرتزل لتجميع اليهود في جميع أنحاء العالم. 2- تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين. 3- اتخاذ السبل وجميع التدابير اللازمة للحصول على تأييد دول العالم للهدف اليهودي وتبنيه. 4- تشكل الجهاز التنفيذي "الوكالة اليهودية" لمتابعة تنفيذ قرارات المؤتمر.
حاول هرتسل محاولات عدة بعد ذلك لأخذ جزء من فلسطين عن طريق الإغراءات والوفود والوساطة، فأصدر السلطان عبد الحميد فرماناً أو القانون المسمى (الإرادة الثانية) الذي صدر عام 1883؛ والذي نص على جعل 80% من أراضي فلسطين أراضي وقف تابعة للدولة و20% فقط منها أرض ملك خاص.
وهكذا فإن السلطان عبد الحميد الثاني ظل ينافح ويكافح عن ثرى فلسطين الطهور؛ طوال حياته حتى آخر محاولات هرتزل سنة 1902 عندما التقاه شخصيا في مقر الخلافة، ورفض أي عرض من عروضه.
لقد ظلت فلسطين تنعم بإسلاميتها في ظل الخلافة، ولم يطمع أو يطمح يهود بالحصول على شبر واحد منها بطريق رسمي؛ أي عن طريق البيع من الدولة، أو الاستئجار، أو عن طريق معاهدة دولية تجيز لهم الهجرة إليها. فما الذي حصل بعد الخلافة؟!
1- بعد هدم الخلافة سنة 1924م استطاع الكفار تنفيذ ما خططوا له من قبل؛ في تمكين يهود من السيطرة على فلسطين المباركة. فبموجب معاهدة سايكس بيكو التآمرية سيطرت بريطانيا على فلسطين تحت مسمى (الانتداب البريطاني) من 1920- 1948؛ عن طريق عصبة الأمم المتحدة. وفي ظل هذا الانتداب قامت بريطانيا بمساعدة اليهود للهجرة إلى فلسطين، ثم تهجير أهلها سنة 1948 ثم إقامة كيان يهود، ثم اعترفت معظم دول العالم بهذه الدولة؛ رغم مخالفتها للقانون الدولي.
2- وبعد هدم الخلافة كذلك سيطر يهود على ما تبقى من أرض فلسطين سنة 67؛ بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وعاثوا فيها فسادا وإفسادا؛ بكافة أشكاله وألوانه وصوره. سواء أكان ذلك على المسلمين فيها، أم على ثراها الطاهر، أم على المقدسات والمساجد بما فيها المسجد الأقصى المبارك والمسجد الإبراهيمي.
3- قامت الدول الكافرة على رأسها أمريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا؛ بترويض الحكام للاعتراف بالقرارات الدولية المزورة الكاذبة وجعلها شرعية، ثم ترويضهم لتوقيع معاهدات اعتراف وتطبيع وسلام مع هذا الكيان المغتصب. وما زالت عمليات التطبيع مستمرة.
4- قام الكفار بمحاولات عديدة عن طريق الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي لفصل القضية الفلسطينية عن بُعدها العقائدي؛ أي بجعلها قضية قومية للفلسطينيين وحدهم، وليست قضية إسلامية؛ وذلك ليسهل تمرير الخيانات والاعترافات بكيان يهود.
5- السعي اليوم عن طريق التطبيع لجعل يهود أسياد المنطقة استراتيجيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا؛ وذلك ضمن ما يسمى بصفقة القرن والشرق الأوسط الكبير.
هذا ما فعله الكفار، وما زالوا يفعلونه بحق فلسطين بعد هدم الخلافة وسلخها عن محيطها الإسلامي. فهل ينجح الكفار بترسيخ وتنفيذ هذه المخططات الشريرة بحق فلسطين وأهلها؟!
وللإجابة على هذا السؤال نقول: فلسطين وقعت أكثر من مرة تحت الاحتلال، ثم عملت الأمة على إنقاذها من منطلق عقائدي، وليس قوميا أو وطنيا. حيث جاءها آل زنكي الأتراك، وصلاح الدين الأيوبي الكردي، وحرروها من براثن الصليبيين بعد 91 عاما من تدنيسها واغتصابها، ثم وقعت تحت سطوة المغول وجاءها المماليك من مصر كذلك وحرروها مرة ثانية.
وسوف تبقى فلسطين مرتبطة برابطها العقائدي الوثيق؛ لا يغيره خيانة الحكام، ولا القرارات الدولية، ولا سلام كاذب، ولا تطبيع مهين، حتى تتمكن الأمة مرة أخرى من تحريرها من يهود. فقد أخبر الحق تعالى أن هذه الأمة هي أمة الخير حتى تقوم الساعة. وأخبر رسوله ﷺ كذلك بأن الأمة ستبقى قائمة على أمر دينها؛ لا تلين ولا تنحني أبدا للكفار، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. وقال عليه الصلاة والسلام: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»؛ أخرجه الطبراني، وقال الهيثمي رجاله ثقات. وقال كذلك: «مثَلُ أُمَّتي مثَلُ المطَرِ؛ لا يُدْرَى أوَّلُه خيرٌ أمْ آخِرُه» رواه الترمذي وحسنه.
فنسأله تعالى أن يبعث لهذه الأمة - ونحن في الذكرى المئوية لهدم الخلافة - رجالا أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين، والظاهر بيبرس فيحرروا المسجد الأقصى المبارك، ويعيدوا للأمة عزتها ومكانتها وكرامتها؛ في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع