أزمة الدواء في السودان قد وصلت مرحلة متأخرة بعد أن انعدمت أغلب الأصناف من رفوف الصيدليات خصوصاً الأدوية المنقذة للحياة.
وفي وقت سابق دفعت لجنة صيادلة السودان المركزية بمذكرة عاجلة إلى مجلس الوزراء تطالبه بضرورة التدخل لإيجاد حلول ناجعة من الدولة لضمان حق الناس في الحصول على دواء آمن وفعال بالسعر المناسب والمستطاع.
أزمة الدواء التي يعيشها السودان وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بين وزارتي الصحة والمالية، كل منهما تتهم الأخرى بالتسبب في الأزمة.
وحسب خطاب مسرب كتبه وزير الصحة السابق أكرم التوم، موجه إلى وزير المالية، إبراهيم البدوي، اطلعت عليه سودان تربيون 14 حزيران/يونيو 2020م فإن كارثة وشيكة الحدوث بسبب انعدام الأدوية المنقذة للحياة، لكن عجز المالية عن سداد فاتورة الدواء لعدة أشهر منذ كانون الأول/ديسمبر 2019م وحتى الآن أوصل إلى انعدام العديد من أصناف الدواء في البلاد، بما في ذلك العديد من الأدوية المنقذة للحياة.
وبدأت ملامح أزمة الدواء منذ كانون الثاني/يناير الماضي، عندما ألغى بنك السودان تخصيص 10% من حصيلة الصادرات غير النفطية، كانت توجه لاستيراد الدواء.
هذه الأزمة هي واحدة من المشاكل التي ظلت تؤرق مضاجع المرضى بالسودان، البعض كان يتوقع تحسن أوضاع قطاع الأدوية بسقوط النظام البائد، وسجن وزير الصحة لولاية الخرطوم السابق مأمون حميدة المتهم بإدارة مافيا الدواء لكن يبدو أن الانتظار ربما يطول حتى تنتهي المعاناة.
أزمة الدواء الراهنة بحسب مختصين تعود لوجود فساد ومافيا في إدارة الملف لذلك تتجدد باستمرار. ولا تتحرك من مكانها إلا وتُطل برأسها من جديد، وقد كشفت الجمعية السودانية لحماية المستهلك، عن وجود "مافيا" تدير قطاع الدواء تتسبب في تجدد أزمة الدواء بين الحين والآخر، وأكد أمين عام الجمعية د. ياسر ميرغني لـ(السوداني) أن "مافيا" الدواء هي التي تُحرك وزارة الصحة الاتحادية وتتحكم في قراراتها بشأن القطاع، مشيراً إلى أنها تسعى هذه الأيام مع وزير الصحة الاتحادي د. أكرم التوم قبل إقالته من منصبه وذلك في سعيهم لتعيين أفراد منهم في منصب الأمين العام للمجلس القومي للأدوية والسموم، لافتاً إلا أنه ما لم يبتعد منصب الأمين العام للمجلس عن مصالح وأطماع مافيا الأدوية لن ينصلح حال الدواء بالبلاد.
وزارة الصحة كانت قد أكدت في أكثر من منبر أن وفرة الدواء لا تتحقق إلا بسداد فواتير الشركات العالقة لدى البنوك التجارية، داعية الدولة للتدخل وحسم الأمر، خاصة وأن الشركات يقع عليها عبء توفير أكثر من 60% من حاجة سوق الدواء وهي شركات القطاع الخاص.
وبما أن البنوك تسعى إلى الربح في تعاملاتها وتمويلاتها، من دون النظر إلى نوع السلعة وحاجة الناس إليها والحكومة تساعد فقط الإمدادات الطبية التي تستورد أقل من نصف حاجة السوق، لذلك تحدث الأزمة عندما تعجز الشركات عن الإيفاء بالتزاماتها وتظهر الفجوة حتى وإن كانت الإمدادات وفرت ما عليها، وبهذه السهولة تتخلى الدولة عن صحة الناس للرأسمالية الجشعة التي لا يهمها إلا المال فإن لم يوجد فلا يعنيها كم مات من المرضى دون دواء!
وفي سيناريو يعكس "تخبط" سياسات الدولة في قطاع الدواء، قررت الحكومة في آذار/مارس الماضي إعادة العمل بتخصيص نسبة 10%، قبل أن تُلغى مرة أخرى بقرار من رئيس الوزراء.
صناعة الدواء حسب قدرة المصانع على مواكبة تطورات الصناعة الدوائية ضعيفة إلى منعدمة، بالإضافة إلى سياسات التسعير، وفرض الرسوم الجمركية على المواد الأولية اللازمة لإنتاج الدواء. قال مدير أحد المصانع "إن تكلفة صناعة شراب البنادول على سبيل المثال أعلى من سعر بيعه في السوق، مما جعلنا نوقف إنتاجه"، وكل هذه المشكلات هي نتاج النظام الرأسمالي.
أصحاب المصانع الدوائية في تصريح لموقع النيلين أكدوا أن صناعة الدواء في السودان تواجه تحديات كبيرة في الحصول على العملات الأجنبية لاستيراد مدخلات الإنتاج، وأثناء هذه المحاولات لاحتواء شحّ الأدوية، يعاني السودانيون في الحصول على الوصفات الطبية. وبات تداول منشورات وتغريدات تتعلق بالاستفسار عن الأدوية، أمراً متداولاً على منصات التواصل.
هكذا هو الحال إن سلم المريض من الابتزاز والاستغلال بسبب الغلاء الفاحش للدواء سيقع في مصيبة عدم فاعلية الدواء الذي يصنع بالاستفسار عن وصفاته على منصات التواصل فما مدى مصداقية هذه الوصفات ومن هو المسؤول عن الأدوية المغشوشة؟ وكيف تهدر صحة الناس بهكذا تلاعب؟
إن الإسلام نهى عن ممارسة المهن الطبية إلا من له علم، فقدْ جاءَ في الحديثِ المرفوعِ الذي رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجه عنْ عُمَرَ بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقدْ صَحَّحَ الحاكمُ إسناد هذا الحديث ووافقهُ الذهبيُّ.
أما "براءة الاختراع" فإنها في الواقع صارت إحدى أدوات الرأسمالية المستخدمة في ذبح الفقراء، وذلك في القطاع الأكثر حساسية والأهم بالنسبة لحياة البشر؛ إذ تخضع صناعة الأدوية كغيرها من الصناعات لمنطق الربح، والسيطرة المطلقة من شركات الأدوية العابرة للقارات، فتسعى هذه الشركات لتعظيم أرباحها بكل الوسائل الممكنة، سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة، فيما اختفت الاعتبارات الإنسانية تماماً من هذه الصناعة، التي تهدف في الأساس إلى الحفاظ على بقاء الإنسانية.
لن نكون مبالغين إذا قلنا إن قطاع الرعاية الصحية والأدوية تنافس بقوة تجارة السلاح والاتجار بالبشر والمخدرات؛ وذلك بسبب الأرباح الضخمة التي تحققها شركات هذا القطاع الذي يعد من أكثر القطاعات الاستثمارية أماناً ومقاومة للركود والتقلبات الاقتصادية، والسبب الوحيد هو أن الدولة تخلت عن واجب رعاية شؤون الرعية وأوكلته للرأسمالية.
صناعة الأدوية يجب أن تتولاها الدولة بنفسها وتشرف عليها، قال رسول الله ﷺ: «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة وتوفير الدواء والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة، وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب: أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيباً فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقاً ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ». وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِنِ الْخَطَّابِ مَرَضاً شَدِيداً فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيباً فَحَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الْحِمْيَةِ".
إن دولة الخلافة القائمة قريباً بإذن الله لا وجود فيها للضرائب ولا الجمارك التي تغلي أسعار الدواء، كما ستلغي كل شرط من الشروط غير الشرعية ومنها براءة الاختراع، فعقد البيع الشرعي كما يعطي للمشتري حق الملكية يعطيه أيضاً حق التصرف بما يملك، وكل شرط مخالف لمقتضى عقد البيع باطل، فعنْ عائشةَ رضي الله عنها: «أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاء لِمَنْ أَعْتَقَ» متفقٌ عليهِ.
رأيك في الموضوع