يستذكر المسلمون بشكل عام وأهل الخليج منهم بشكل خاص في آب/أغسطس من كل عام ذكرى اجتياح قوات نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الكويت، وما ترتب على ذلك من حرب مدمرة للعراق ومقدراته واستيطان للقوات الأمريكية في المنطقة.
وفي هذا السياق تثور مفاهيم الأعماق لدى الكثير من أبناء المنطقة، ويظهر حنينهم لصيغ مختلفة من وحدة مستحقة بين بلاد تشترك في كثير من العوامل.
فما هو الإطار الصحيح لقضية الوحدة وما هو العلاج الصحيح لها؟
الإطار الصحيح للقضية يسوّره ثلاث حقائق؛ حقيقة شرعية وحقيقة تاريخية وحقيقة مستقبلية إن صح التعبير.
أما الشرع فغني عن القول إن المسلم يجب أن ينطلق من أحكام الشرع الإسلامي في تحديد مواقفه في جميع قضايا الحياة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾. والموقف الشرعي من الوحدة بين بلاد المسلمين أنها يجب أن تتوحد بلا ريب بشكل كامل في ظل دولة واحدة، وأنه يحرم تقسيمها إلى كيانات منفصلة ودول متعددة. قال رسول الله ﷺ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» (رواه مسلم) وقال ﷺ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ»، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» (رواه البخاري)، وقال ﷺ: «... وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» (رواه مسلم)، وقال ﷺ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»، وقال ﷺ: «إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» (رواه مسلم) وهنات جمع هنة، والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة، وقال ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلَاةٍ إِلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» (مسند أحمد).
فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على وجوب وحدة الكيان السياسي الذي يمثل المسلمين، وأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا دولة واحدة.
هذا وقد حذر أبو بكر الصديق رضي الله عنه من فرقة المسلمين السياسية، فقال: "وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمِيرَانِ؛ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ ذَلِكَ يَخْتَلِفْ أَمْرُهُمْ، وَأَحْكَامُهُمْ، وَتَتَفَرَّقْ جَمَاعَتُهُمْ، وَيَتَنَازَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، هُنَالِكَ تُتْرَكُ السُّنَّةُ، وَتَظْهَرُ الْبِدْعَةُ، وَتَعْظُمُ الْفِتْنَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ صَلَاحٌ" (سنن البيهقي).
هذا فيما يتعلق بالحكم الشرعي.
أما الحقيقة التاريخية، فإنه غني عن القول أيضاً أن الكافر المستعمر في اتفاقية سايكس وبيكو قد رسم بُعيد هدم الخلافة حدودَ دولٍ جديدة للمسلمين.
كتب الجاسوس البريطاني الشهير، توماس لورانس، مفجرّ ما يسمى بالثورة العربية الكبرى، في مذكراته "وأخذت طوال الطريق أفكر في سوريا، وفي الحج، وأتساءل: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقاد الديني؟ وبمعنى أوضح، هل تحل المشاكل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام، وتستبدل سوريا بمثلها الأعلى الديني مثلها الأعلى الوطني؟ هذا ما كان يجول بخاطري طول الطريق".
ولم يفت الغربي المستعمر أن يزرع في بلاد المسلمين ألغاماً (نزاعات حدودية، عنعنات عنصرية، ثارات تاريخية...) تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى على شكل تهديدات ومناوشات وحروب. ومما زاد الطين بلّة أن حدود سايكس وبيكو قد انتقلت من أحبار على خرائط إلى عقول وقلوب الكثير من أبناء المسلمين! فتمظهرت الوطنية في جوانب متعددة؛ في اللهجات والأناشيد والرايات والتاريخ والجنسيات وتوزيع الثروات والسياسة الخارجية والتحالفات والحروب، وحتى الاستشهاد صار في سبيل حدود الوطن!
هذا هو واقعنا الكئيب؛ يمنٌ جائع بجانبه إماراتٌ تفيض ثروة! وكويتٌ خائف وبجانبه دول مسلحة حتى أضراسها! وليبيا قاحلة وبجانبها مصر تفيض بشراً! قتال بين إيران والعراق، ومقاطعة بين قطر والسعودية، وقتال بين يمنٍ ويمن! تباً لها من حدود ملعونة...
أما المستقبل فإنه بإذن الله سيكون مشرقاً، وسوف يكون الظهور للإسلام على الدين كله، ولن يستمر هذا الوضع الشاذ بين بلاد المسلمين. ليس فقط بين العراق والكويت، بل العراق وإيران، والسعودية وقطر، والهند وباكستان وبنغلادش، واليمن بمخلافَيه! والمغرب والجزائر...الخ. نعم، فإنه يعتمل منذ عقود بين أحشاء المسلمين مشروع مبدئي يتجاوز الدولة القومية والوطنية بكل تبعاتها العنصرية، وسيتجسد قريباً بإذن الله هذا المشروع على صورة الخلافة على منهاج النبوة. نعم، خلافة واحدة مهيبة وليس دويلات متعددة "تحكي صولة الأسد"! خلافة تعيد المسلمين جماعة سياسية واحدة يحب بعضهم بعضاً، يعملون جميعاً لنهضة أمتهم وحمل رسالة الإسلام إلى العالم.
قال ﷺ: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضاً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ثمَّ سَكَتَ».
بقلم: الأستاذ أسامة الثويني
دائرة الإعلام / حزب التحرير (الكويت)
رأيك في الموضوع