من يقرأ في القرآن الكريم وسيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب السير والتاريخ الإسلامي عما كان عليه شهر رمضان المبارك في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين وفي عصر دولة الخلافة وما سار عليه خلفاء المسلمين بعد ذلك يفهم أنه يعيش اليوم في جاهلية كفار قريش مرة أخرى. فرمضان اليوم تحول إلى شهر كسائر أشهر السنة يستغله التُجار لرفع أسعار السلع، ويستغله الإعلام في إلهاء الناس عن العبادة بالمسلسلات، ويستغله السياسيون في زرع الفِتن بين المسلمين وإرباكهم بخلافات واختلافات في دخول أول يوم من شهر الصوم الذي يجب أن يُعزز وحدة الأمة الإسلامية وليس العكس، كما يستمر الخلاف حتى على أول يوم في عيد الفطر بين بلاد المسلمين.
فكيف كان شهر رمضان وكيف أصبح وكيف نعيد عزته ونعيد للإسلام سيرته الأولى؟!
كان شهر رمضان المبارك شهراً متميزا عندما كان للمسلمين حاكم مسلم يطبق عليهم أحكام الإسلام في دولة الخلافة الواحدة ذات الأطراف المترامية والثروات التي لا تنضب. كان أمر خليفة المسلمين فيها يرفع الخلاف بين المسلمين ويوحد صومهم وعيدهم وحَجهم، وكان الحاكم المسلم يعمل على رعاية كافة شؤون رعايا الدولة بما يرضي الله تعالى بتطبيق الشرع في نظام الحكم، فهيأ للناس أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية راقية في دولة توفرت فيها كافة الخدمات فلم يبق فيها فقير ولا مسكين ولا يتيم إلا مجبور الخاطر، وكانت أجواء رمضان أجواء احتفالية وأجواء رفعة وفخر مشبعة بالإيمان يحفها العدل والطمأنينة والسعادة في ظل نظام الإسلام؛ تلك النعمة التي أتمها الله سبحانه على الأمة الإسلامية فأصبحت خير الأمم وفي مركز الريادة والقيادة والشهادة على البشرية. فهذه هي النقطة الفارقة التي أفقدت شهر رمضان المبارك عزته وهيبته ورونقه حتى أصبح على غير حقيقته، فما يميز شهر القرآن هو أنه مظهر قوي من مظاهر الحكم الإسلامي ووحدة الأمة الإسلامية وعزة الإسلام حول العالم، فالقرآن دستور والسلطان للأمة لا يجوز أن يفترقا. وقد كان قادة المسلمين على مدى سبعة قرون إبان الحكم الإسلامي يتحينون فرص النصر في رمضان وينقلون فيه الأمة الإسلامية لمراحل أكثر قوة وصلابة في طريق النهضة ونشر الدعوة بالجهاد، فكان رمضان العِزة شهراً يُسجل فيه القادة والأبطال أعظم المواقف التاريخية العظيمة لأمة الإسلام وهم صائمون، فالصوم تدريب على الجهاد، يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل جماعة من أصحابه لغزو فاختلفوا ورجعوا قبل أن يغزوا، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: «ذَهَبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعاً وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ، إنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْفُرْقَةُ، لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلاً لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ، أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ». فقد كانوا يسيرون على خطا قائدنا وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام والخلفاء والحكام في دولة الخلافة من مثل عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وقطز والسلطان عبد الحميد وسليمان القانوني رحمهم الله. فلقد ارتبط شهر رمضان المبارك بالجهاد والقتال بقيادة خليفة المسلمين، فهو شهر نصر وتمكين للمؤمنين وإنقاذ للبشرية من براثن الكفر وأهله.
فرمضان كان شهر الفتوحات الإسلامية ودخول الناس في الإسلام أفواجاً، والتاريخ شاهد على ذلك العصر الذهبي الذي لم تشهد البشرية مثله، منذ أن أصبحت الأمة في ذيل الأمم لأنها بقيت بدون حاكم وبلا خليفة. ومن هذه الانتصارات الكبرى في رمضان والتي كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين: غزوة بدر الكبرى، وغزوة الخندق، وفتح مكة ويوم تحطيم الأصنام ودحر رموز الشرك، وفتح مصر، وفتح عمورية والقسطنطينية، ومعركة عين جالوت وانتصارات صلاح الدين الأيوبي في حطين وغيرها. فالقائد اليوم مفقود والدولة الإسلامية مفقودة ففُقدت الانتصارات وفُقدت الرعاية وبقي الإسلام سجين الحدود المصطنعة في دويلات هزيلة تخدم حكوماتها السفيهة التي لا تتقي الله تعالى وتخدم مصالح الغرب الكافر المستعمر. فالمسلم في خوف من الموت بجائحة كورونا وأمراض أخرى مميتة. ويستقبل شهر رمضان المبارك في قلق من الموت جوعاً وفقراً، واستقبله في هلع من الموت بجائحة التشرد والغرق، أو أن يكون عالقاً بين الحدود هرباً من حُكام يقتلون شعوبهم داخل أراضيهم، واستقبله في عدم أمن وأمان بسبب الظلم والاضطهاد والحرب على الإسلام والمسلمين على يد الأنظمة الكافرة التي حرقت المسلمين وقتلت أطفالهم واستباحت نساءهم حتى داخل بيوتهم كالهند وكشمير وميانمار وتركستان الشرقية، ومنهم من يستقبله وقد قضي على أهله على يد يهود وسيسي مصر، والقوات الأمريكية والروسية وقوات أممية وأوروبية؛ بريطانيا وفرنسا؛ كما يحدث في أوزبيكستان وأفغانستان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين المحتلة، والسودان شماله وجنوبه، ومنهم من يستقبله شهيدا قتله ملوك آل سعود في بلاد الحرمين الشريفين. يستقبل المسلمون شهر رمضان المبارك كل عام منذ تسعة وتسعين عاماً مضت على هدم دولة الخلافة في عام 1924م، وهم في ضنك وذل وظلم وقهر ولا يستطيعون أن يتذوقوا حلاوة الإيمان ولا أن يعيشوا عزة الإسلام وحلاوة تطبيق القرآن وأنظمة الإسلام في شتى مناحي الحياة. لقد تعمدت الأنظمة الحاكمة حول العالم إفساد شهر رمضان المبارك وأجوائه الإيمانية العطرة على المسلمين باصطناع المشكلات المستعصية اليومية، ففي زمن الرويبضات والطواغيت يعيش العالم في مشاكل لا تنتهي؛ لقد انقلبت الموازين فالواقع اليوم واقع مظلم لأن الأمة الإسلامية تعيش أسوأ تاريخ مر عليها بسبب الحكم العلماني الرأسمالي الجبري، ومن أجل استعادة عز الإسلام وقوته وعزة الأمة الإسلامية على المسلمين العمل لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة ليعود شهر رمضان المبارك كما يجب أن يكون عليه، شهر انتصارات وفتوحات، وشهر رعاية وخير وكرم، وشهر وحدة وقوة وعزة. إن الأمل الوحيد اليوم للخروج من دهاليز الحكم الجبري المظلمة هو العمل مع العاملين المخلصين مع حزب التحرير لإسقاط الطواغيت وتصفيد شياطين الكفر في شهر رمضان وليكون شهر القرآن منطلقاً للتغيير والعمل بجد واجتهاد لتحقيق النصر واستعادة عظمة الإسلام وعِزة رمضان التي لن تعود إلا بإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذة غادة محمد حمدي - ولاية السودان
رأيك في الموضوع