إن فهم الواقع فهماً جيداً وفهم المتغيرات المؤثرة فيه والمرافقة له هو أمرٌ لا بدّ منه للمهتمين بالشأن العام المتطلّعين للتغيير. وإن ما تم تسميته بالربيع العربي هو واقع جديد، وعدم إدراكه وفهمه كان سبباً في إعادة إنتاج أنظمة شبيهة بالزائلة، ومن هذا الربيع ثورة الشام التي ظن البعض أن الانتقال سيكون سياسياً سلساً كما في تونس، وراح البعض ليُحلّق في خياله ويرى أن الحسم عسكري سريع لينتهي المشهد، ونسي الغالبية ولم يدركوا أنّ عدوهم يمتلك أدواتٍ وأساليب كثيرة، وقد يفاجئنا بها إذا أخطأنا بتقييم الواقع بمقوماته وعوائقه.
واليوم بعد أن دخلت الثورة في عامها العاشر فإنّه يُحسب لها ولأهلها صمودهم كل هذه الفترة في وجه النظام وأعوانه من دول عظمى في المنظومة الدولية دأبوا من الساعات الأولى على احتوائها وتوجيهها وتركيعها لإنهاء الحالة الثورية التي خرجت على أحد أبناء المنظومة الدولية الرأسمالية.
ويُحسب لها رغم انحسارها جغرافياً أنها ما زالت للآن تتحمل النزوح والقتل وضيق العيش على أن تقبل بعودة سيادة النظام المجرم.
أما من جانب آخر فإن واقع الناس اليوم أصبح شبيهاً بقضية فلسطين التي تحولّت من الحالة الثورية التي تهدف لتحريرها كاملة إلى حالة من تخفيض سقف المطالب للقبول بحدود 48 ثم حدود 67 ثم انخفاض السقف ليصبح همّ الناس هو المقاومة فحسب والحفاظ على ما تبقى.
والناس اليوم بعد أن كانت تضغط على أهل القوة والسلاح لعدم التوقف عن المعارك حتى تحويل كل منطقة عدو إلى صديق، والتي كانت تعتبر مجرد التوقف والرباط جريمة لأنّ فيها تأخيراً لتحقيق الهدف. بعد أن كانت كذلك أصبحت اليوم ترضى بالقليل وتسكت إذا حافظ أهل القوة على الموجود فحسب ولا ترفع صوتها لاستعادة ما تمت خسارته وتحرير ما بقي في حوزة الأسد.
إن هذه الصورة من تراجع الحالة الثورية وتخفيض سقف المطالب كان له أسباب عمل عليها الغرب الكافر عن طريق أدواته كلها بدءاً من الإعلام الخبيث الذي يبث سمومه الإرجافية وصولاً بالفصائلية المقيتة التي قامت بحزمة من الأعمال المنظمة لتنفير الناس من الثورة والتغيير وذلك من خلال إعادة إنشاء أفرع أمنية خبيثة لتركيع الناس وتخويفهم تحاكي الأفرع الطاغوتية في أساليبها وهدفها، ومن خلال التضييق على حياة الناس ولقمة عيشهم عن طريق الضرائب والمكوس، وعن طريق كسر معنويات الناس بفتح معارك ثم تفشيلها ليتم الترويج لفقه الاستضعاف والمراوغة، ومن خلال الاقتتالات الداخلية المنظمة والموجهة من ضباط المخابرات ليُحققوا بها عدة أهداف منها الشرخ بين الثوار وبين أهالي البلدة الواحدة وبين أفراد العائلة الواحدة ليضمنوا تآكل مفاصل الثورة وضعف حركتها، وليحققوا بهذه الاقتتالات تيئيس الناس وتشاؤمهم بعد رؤيتهم لسلاح الثورة موجّها للداخل.
ولعل الفكرة الأهم التي استطاع الغرب زرعها في الثورة هي جعل الثورة محصورة بمن يحمل السلاح فقط، والثائر هو المقاتل فقط، بل إنّ الثائر هو المقاتل ضمن الفصائل فحسب، بعد أن كانت الثورة حالة وصفة تنطبق على من عارض النظام بقول أو دعوة أو مظاهرة أو مال أو الهجرة من مناطق سيطرته.
هذه الحالة الأخيرة كانت كفيلة بتوجيه خنجر مسموم في صدر فكرة السلطان للأمة مما جعل الناس رويدا رويدا تتناقص ثقتها بنفسها بأنها قادرة على التغيير، وعندما تفقد الناس هذه الثقة أو تتزعزع سيتحول الرأي العام فيها إلى رأي عام كامن وسينخفض سقف مطالبها لتصبح مهيّأة للدخول في نفق الضياع من جديد وتحولت أفكارها النقية ومعنوياتها العالية إلى فكرة خطيرة عنوانها (القضية أصبحت بيد الدول وصارت أكبر منا).
أمام الناس اليوم نفقان مظلمان ومكمن الخطورة فيهما أنّ شعور الناس بالخطر تجاههما ليس على القدر الكافي الملائم لحجمهما وليس بالقدر الكافي لينتج تحركاً يعرقل ثم يبادر ويصحح المسار. النفق الأول هو نفق الحل السياسي الأمريكي الذي يتم الترويج له لإيصال الناس ليقبلوا به عن قناعة.
والنفق الثاني هو ما بعد الحل السياسي الذي تخرج فيه روسيا من سوريا بالإياب فقط، وعندها يستوي عند أمريكا الحسم العسكري من عدمه وعندها تكون الأمور مهيأة للانتقام ممن خرج على عميلها الأسد بعد أن تكون قد سحبت السلاح من الناس وبعد أن تكون قد حولت المجاهدين إلى عناصر مصالحات وبعد أن تكون قد وجهت ضربات قوية للحالة الثورية ولثقة الناس بقدرتها على التغيير.
كلا النفقين خطير ولكن الأخطر هو الحل السياسي لأنه يحمل في طياته بذور إنهاء فكرة إسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام التي تكاد تصبح كامنة غير ظاهرة كما كانت من قبل أو بمعنى آخر أنّ الثورة في قلوب الناس تكاد تصبح فردية بكل شخص عندما تسأله ولكنها ليست جماعية بمعنى أنها حديث الشارع وهمّه وهي الرأي العام الضاغط.
والحل السياسي تمهيد للنفق التالي الذي قد يكون سربرنيتشا جديدة بسيناريو انسحاب الجيش التركي كما انسحبت الكتيبة الهولندية قبيل اغتصاب مسلمات البوسنة وقتل رجالها.
وإن أخطر ما تمر به الساحة اليوم هو الركون للنظام التركي الذي يسوقنا للحل السياسي الأمريكي ويسعى لتنفيذه على الأرض من خلال الأدوات من حكومات وقادة وشرعيين وإعلاميين لوضع الناس ضمن صندوق المحرر وضمن سجن الخريطة العسكرية التي ترسمها اتفاقية سوتشي ليراها الناس خريطة سياسية يقبلون بها ويعتادون عليها لينسوا ما سواها.
وإن كثافة الوجود التركي اليوم هي للإشراف العملي على البدء بخطوات الحل السياسي الذي يبدأ بتسليم الناس رقابهم للنظام التركي بعد أن يفقدوا ثقتهم بقدرتهم على التغيير وينسوا طريق الخلاص بل يفقدوا الثقة بأنفسهم في قدراتهم على الحفاظ على ما تبقى وخاصة بعد معركة النيرب المشتركة مع التركي التي سقطت بعد ذلك ليتم بث روح التثبيط والإرجاف واليأس المفضي للقبول بأسوأ الحلول.
يضاف لمكر النظام التركي الاستمرار بتخدير الناس وتأميلهم بالعودة لبيوتهم بالتلميح بأن تركيا ستجبر النظام عسكرياً أو بالتهديد ليعود لحدود سوتشي، واستغلال هذه الفترة لتثبيت الخارطة السياسية الحالية في أذهان الناس لتعطيل تفكيرهم ثم التمهيد لجسم عسكري قد يتم إنشاؤه ليتم تسخيره لقطع الطريق على المخلصين لمنعهم من القيام بأي عمل يفجر الناس من جديد ويصحح المسار.
هذا مكر أعدائنا وتلك هي المعوقات والأدوات التي يستخدمونها للإجهاز على الثورة وتطلّعها للتغيير ولكن رغم كل هذا المكر والكيد لا بدّ أن نلاحظ أنّ كل هذا المكر لم يكونوا ليقوموا به لولا أنّ الثورة بنظرهم ما زالت خطيرة وتقف على قدميها.
فمقومات النصر والتغيير لا زالت متاحة وكبيرة، واليأس الذي قد يتصوره البعض عند الناس ليس يأساً حقيقياً بل هو أناةُ القط التي ستتبعها وثبة الأسد، فالعامل البشري موجود وهو رغم كل المكر عليه إلا أنه لا يقبل بالعودة لحضن النظام بأي شكل، والعامل المادي موجود والنظام مهلهل ومُستنزف عسكرياً واقتصادياً وشعبياً.
بقلم: الأستاذ مصطفى سليمان
رأيك في الموضوع