قبل البدء بالحديث عن الآفات والمستلزمات لا بدّ من توصيف دقيق لمعنى كلمة ثورة والتي تعني التغيير الجذري الانقلابي والخروج عن الوضع الراهن وتغييره باندفاع يُحركه عدم الرضا والتطلع إلى الأفضل مع إلغاء فكرة العودة والتراجع مهما كلف الأمر فقد يكون النصر هو تحقيق الهدف المنشود وقد يكون الموت دونه.
والثورة على الدولة لا بدّ أن يتمخض عنها دولة جديدة بنظامٍ جديد يُعالج ما أفسده النظام الذي تمت الثورة عليه؛ والثورة تحمل في مضمونها التحرر من القيود وبالتالي تحمل في طياتها كلها نزعة الاستقلالية فلا ينبغي لها مع ذلك أن تُنتج دولة ونظاما مسلوبي السيادة والقرار.
والشعوب تُحجم عادةً عن الثورات أو تتأخر فيها بسبب عوامل عديدة منها الجهل والفقر والخوف من تبعات التغيير، ووعاء هذه العوامل هو ضعف الثقة بالنفس والذي يعني بطبيعة الحال وبصياغة أخرى تخلي الناس عن حقها وسلطانها وعدم السعي لاستعادته ممن يغتصبه منها.
وبالتالي فإن على الثائرين والمتطلعين للتغيير أن يكونوا متيقظين لهذا الحال المراد تغييره حتى لا يتنازلوا أو يتراجعوا تحت ضغط الظروف عن أي جزئية من جزئياته فتتحول ثورتهم إلى حركة إعادة تصنيع للظلم يضاف له أمور خطيرة جداً، منها فاتورة من التضحيات المجانية التي ذهبت أدراج الرياح ومنها تعب الناس وفقدانهم الثقة والإرادة لإعادة عملية التغيير من جديد بعد الصدمة التي ستفاجئها.
لذلك فإن الثورة إذا لم تكتمل في أذهان الثوار ليدركوا مداخلها ومخارجها فلن تكتمل معهم على الأرض، وإذا لم تكتمل في عقول الثائرين صورة واضحة عن الحال الجديد الذي يهدفون الوصول إليه فسيكونون عرضةً للتخبط والارتجالية وإنتاج أشكال جديدة من الضنك والانحطاط؛ وبالتالي لا يكفي التفكير بهدم الفاسد فحسب بل لا بد من التفكير في الوقت نفسه بصورة البناء الجديد وكيفية إقامته.
عندما يدرك الثوار هذه الحقائق حول ما يراد تغييره وأنه ليس شخص رئيس الدولة بل نظامه وقانونه وتبعيته للمنظومة الدولية فهذا يعني بالضرورة إدراكهم لقضية مهمة ألا وهي حقيقة الصراع الذي سيخوضونه والذي لن يقتصر على مواجهة النظام المطلوب إسقاطه فحسب بل مواجهة مكر المنظومة التي يتبع لها والتي لن تتوانى في مواجهة الثوار.
إن حقيقة الصراع تُحدد للعاملين الخطط والأساليب، فإن أدركوا أن الصراع هو صراع حق وباطل وصراع إيمانٍ وكفر فعندها ستكون هممهم عالية وأنفاسهم أطول والمفاجآت والمطبات أقل، وسيدركون مع ذلك أن عليهم اللجوء لداعم واحد وهو الله وسيضعون أقدامهم في بداية طريق الوصول لرضاه.
أما إن أخطأوا في تحديد طبيعة الصراع وظنوا أن عدوهم هو نظام محلي فسوف يُخطئون ويتعثرون وقد يلجأون لعدوهم دون أن يدروا أنهم يستجيرون من الرمضاء بالنار، وسيبحثون عن حلفاء وداعمين مع الله في البداية، ثم عن داعمين دون الله، وهنا يبدأ الانحدار وتزل الأقدام؛ فستسيطر على الثائرين عقلية النظر إلى ما بين أيديهم من إمكانيات فقط دون النظر إلى معية الله وتأييده، ولعل هذه هي أخطر آفة من آفات الثورات.
فها هي ثورة الشام قد وضعت طاقاتها تحت وصاية من يُسمون زورا بأصدقاء الشعب السوري فتعاونوا مع السعودية التي باعت قسماً في الجنوب، وتعاونوا مع قطر التي أكملت على الجنوب ودمشق، واليوم يتعاونون مع تركيا التي خانتهم بضمانها لاتفاقية خفض التصعيد التي سبقها بيع حلب.
ولم يدرك الناس حجم الصراع الحقيقي كما يجب وإن هتفت حناجرهم بالقول (هي لله) وبالقول (أمريكا ألم يشبع حقدك من دمنا؟) ولكن لم تتحول هذه الصيحات إلى سلوك وخاصة بعد أن فتحت الدول حبل الدعم الذي قبلته الفصائل وربطته على عنقها فصارت ثوابت الأمس متغيرات اليوم! وقد رأينا كيف تحولت كتائب أحرار الشام إلى أداة لتنفيذ الهدن في مناطق دون أخرى ليتفرد النظام بغيرها، ورأينا كيف هرولت إلى مؤتمر الرياض الذي يُنهي بمقرراته فكرة الثورة، ورأينا كيف تحولت جبهة النصرة من عقلية الولاء لله والبراء من أعدائه إلى عقلية المشي مع التيار وممارسة التقية مع أعداء الله، وكيف تحولت في أدبياتها من عرض الإسلام العالمي إلى الإسلام المحلي (السايكسبيكوي) ثم إلى الإسلام المسمى معتدلاً والمتماشي مع النظام التركي لتصل في آخر حلقاتها إلى محاربة وإقصاء من كانوا يحملون فكرتها قبل سنوات، ورأينا كيف تحول الجيش الحر إلى جيش ليس حراً باختصار، ثم إلى جيش وطني ثم جيش حتى غير وطني عندما تحول مرةً لجندرما عند تركيا ومرة لمرتزقة للقتال في ليبيا!
نعم إن آفة الثورة هي اعتبار أن الله هو الجهة الأضعف في المعادلة وبالتالي البحث عن جهة أقوى تساند الثورة بعيداً عن أوامر الله وتدابيره ونواهيه فيبدأ الثائرون عندها بدق المسامير في نعش ثورتهم.
ولأن الشيء هنا يُعرف بضده فإن من أهم مستلزمات الثورة الوليدة أو الثورة التي يُراد تصحيح مسارها كثورة الشام، أن يدرك أهلها أولاً حقيقة الصراع وأنه صراع إيمانٍ وكفر وأنه صراع حق وباطل وأنه مواجهة مع المنظومة الدولية حتى لا يتفاجأ العاملون وحتى لا تبرد هممهم.
وينبغي أن يتسلّح العاملون بمفهومين كافيين لتجاوز العقبات ألا وهما مفهوم الرزق ومفهوم الأجل؛ فالرزق مقسوم ومكتوب في اللوح المحفوظ كالموت تماماً، فلا يموت إنسانٌ حتى يستكمل رزقه وأجله، فعن أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِي أَنَّ نفْساً لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».
ولاستكمال مستلزمات النصر المطلوب من الله وحتى يسير العاملون ويتبعهم الناس ويُحاسبوهم على بيّنة لا بدّ مع المفاهيم السابقة أن يُحددوا مشروعهم للبديل المنشود بكل دقة ووضوح وبدون مواربة أو رمادية ليتبناه الناس وينصروه ويساندوا قادته للسير في تنفيذه حتى يسيروا على هدىً وبصيرة لا على مصطلحات فارغة من مضمونها كما فعل تنظيم الدولة التي استغل الرأي العام حول الخلافة ليزعم بعدها إقامة خلافة أساءت لمشروع الخلافة وسعت لتشويهه لولا فضل الله الذي فضحهم وكشف زعمهم.
ولا تعني هذه المستلزمات عدم الأخذ بالأسباب المادية من إعداد عدة وعتاد ورجال، ولكن يعني أن يكون هذا الإعداد بناءً على مبدأ ثابت؛ فالوضوء لا يصح بماء نجس، والله طيب لا يقبل إلا طيبا والنصر من عند الله فهو القائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، فما علينا إلا تحقيق الشرط ليحقق الله لنا الوعد إن شاء، ونسأل الله أن يكون قريبا.
بقلم: الأستاذ مصطفى سليمان
رأيك في الموضوع