في مقال نشره تحت عنوان: "ضريبة القطع مع الشمال السوري المحرر"، استعرض أحمد موفق زيدان أخطاء أمريكا في باكستان عندما رفضت تدريب الضباط الباكستانيين في أمريكا، الأمر الذي نتج عنه طبقة من الضباط الباكستانيين المستقلين بقرارهم عنها والمعادين لها لأنها أضاعت فرصة التعرف عليهم وعلى عقليتهم، وأضاعت فرصة مد جسور العلاقات معهم.
ثم انتقل إلى أخطاء أمريكا في أفغانستان عندما فرضت عقوبات عليها بعد استلام طالبان للحكم عام 1996، الأمر الذي أدّى إلى الانقطاع بين الطرفين ما أفقد أمريكا القدرة على ضبط الجيل الجديد، ما جرَّ عليها وعلى الغرب تكاليف كبيرة كان يمكن تفاديها باستمرارية التواصل ومعرفة آليات التفكير والعمل على الأرض.
زيدان بكلامه هذا يقول لأمريكا، إنّ تركك المسلمين بعيدين عن أحضانك هو قرار خاطئ فلا تكرريه حتى لا يرجع المسلمون إلى دينهم ويتخذوك عدوّاً لهم كما أمرهم الله!
ويضيف زيدان في نصائحه لأمريكا بأنّ تصرفاتها العدائية في الشمال السوري المحرر وضرباتها الجوية للمسلمين ستؤدي إلى خروج جيلٍ "ربما لا أحد يعرف حدود تفكيره، وجوهر قناعاته بالغضب على المجتمع الدولي الذي أسلمه لقتلة نفذوا بحقه 330 هجوماً كيماوياً".
ويوضح زيدان في تقريره الاستخباراتي بأن الخطر الأكبر في سياسة أمريكا مع الشمال المحرر آتٍ من أن المقاطعة ستؤجج العدائية الشعبية للغرب الكافر وخاصة عند عدم دمج الشمال المحرر مع المجتمع الدولي وإغلاق الباب أمام التعرف عليه؛ حيث يقول: "بينما الخطر الأكبر باعتقادي هو الابتعاد عن المنطقة، والتخلي عنها، وتأجيج العدائية الشعبية بهذه الممارسات إن كانت بغارات جوية، أقرب ما تكون إلى الإعدامات الجوية، ما يعطي المبرر الشرعي والقانوني للمحتلين الروس والإيرانيين بمواصلة حربهم على الثورة السورية، أو بغارات من نوع آخر تتمثل في الحصار والمضايقة على الشمال المحرر، وعدم دمجه مع المجتمع الدولي، والتعرّف عليه".
عند قراءة التقرير لمرات عدة لا يمكن تلخيص كلام زيدان إلا على أنّه ينصح رأس الكفر أمريكا باتباع الطرق المدروسة بدقة للقضاء على الإسلام وعلى كل انتفاضة لتغيير الواقع، ثم يعطي لأمريكا أمثلة عن أخطائها وتقصيرها في محاربة المسلمين وفي محاربة تحركهم لاستعادة سلطانهم، ليقول لساستها بالفم الملآن: آن لكم أن تتعلموا من أخطائكم وتقوموا بوضع حِراك المسلمين تحت مِظلة المنظومة الدولية الكفرية قبل أن يلجؤوا إلى الذهاب إلى مظلة الله الخالق المدبر والمشروع الإسلامي الذي يتطلع أهله للخروج من عباءة المنظومة الدولية التي حاربت المسلمين في كل مكان وساندت نظام أسد في حربه منذ اللحظة الأولى حتى الآن.
وعود على بدء؛ فإن لنا وقفات سريعة مع مقال زيدان الذي يظنّه القارئ للوهلة الأولى تقريراً لوكالة الاستخبارات الأمريكية أو دراسة لمعهد راند!
أما الوقفة الأولى فهي وقفة سياسية بحتة:
إذ كيف لشخص مثل أحمد زيدان الذي سبق أن شغل منصب مدير مكتب قناة الجزيرة أن لا يدرك بأنَّ أمريكا هي التي وضعت الأسد الابن مثل أبيه في الحكم، وهي التي وقفت معه طوال الثورة عليه، وهي التي قتلت المسلمين بكافة أطيافهم بسلاحها تارة وبمؤتمراتها تارة وبغرف الدعم الخبيثة التي حالت دون الإجهاز على النظام عندما كان يلفظ أنفاسه في سنوات الثورة الأولى تارة أخرى؟!
ألم يشاهد أحمد زيدان مظاهرات الثورة التي كان عنوانها: "أمريكا ألم يشبع حقدك من دمائنا"؟!
ألم يسمع صيحات المنتفضين للتغيير عندما هتفوا: "يا بشار ويا جبان ويا عميل الأمريكان"؟!
وإن كان زيدان لم يسمع هذه الصيحات على قناة الجزيرة، ألم يشاهد قصفها للمدنيين في عموم المحرر؟!
ثم إن لم تكفه هذه الأدلة أو لم يشاهدها، فهل شاهد تحرّكاً أمريكياً واحداً ضد نظام بشار الكيماوي؟!
وعلى الرغم من هذه الحقائق الصارخة بيدَ أننا سنعين تيار زيدان بآخر مثال من الحرب الأوكرانية، والتي استنفرت أمريكا مع المجتمع الدولي كل طاقاتها بعد ساعات من الحرب، وقاموا بزجّها لدعم أوكرانيا، بينما لم يلاحظ صبيان السياسة ازدواجيةَ أمريكا التي ما زالت بعد أكثر من عشر سنوات في الشام تندد ببعض جرائم نظام بشار، بل تقول بكل صراحة بأنها لا تؤيد إسقاط النظام إنما تؤيد إصلاحه، وإقامة مصالحة وطنية معه، وحكومة انتقالية تمسح جريمة قتل أكثر من مليون شهيد وملايين المهجّرين والمعتقلين.
ثم كيف يريد زيدان أن يندمج المحرر مع المجتمع الدولي الذي عمل خلال سنوات الثورة على تكبيل الثائرين باتفاقيات الذل التي تمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وتطلق يد نظام الإجرام للفتك والتدمير والتقتيل والاغتصاب؟! حتى قالت جموع المتظاهرين الثائرين: "المجتمع الدولي شريك الأسد في قتلنا".
أما عن فقرة التقرير التي تعتب على الغرب أنّه لم يتعرف على المحرر فإنها تجعلنا نسأل: كيف استطاع المجتمع الدولي التعرف على واقع الحرب الروسية الأوكرانية خلال ساعات، ثم ترونه حتى الآن غير قادر على التعرف على المحرر بعد كل هذه المدة وبعد كل تلك القيادات التابعة له والمنظمات التي تعمل خدمة لمخططاته؟!
أما الوقفة الثانية فهي وقفة تاريخية للدروس والعبر وفيها نقول:
لقد مارست الفصائل الفلسطينية النموذج نفسه الذي تدعو إليه، فماذا كانت النتيجة بعد دمجهم بالمجتمع الدولي؟! وفي باكستان أعادت أمريكا برنامج تدريب الضباط الباكستانيين وترويضهم، فهل تحقق للإسلام نصر؟! وهل رُفِعَ للمسلمين رأس؟! هل حققت مصر أو قطر أو الأردن أو السعودية نصراً من تطبيقها النموذج نفسه الذي تنصح بها أمريكا وتدعو إليه المسلمين؟!
أما الوقفة الأخيرة، وختامها بالمسك، فهي وقفة شرعية نتوقف معها عند قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾؛ فالغرب الكافر ممثّلاً بالمجتمع الدولي له هدف واحد ألا وهو فتنة المسلمين عن دينهم ثم الاحتكام للشرائع الوضعية التي تريد من الله أن يكون خالقاً لا علاقة له بتدبير شؤون خلقه! فكيف نقبل بالاندماج مع هذه المنظومة وكيف نتأمّل الخير من هكذا اندماج؟!
ونختم بقوله تعالى في وصف حال اللاهثين أمام تصنيف الغرب لهم: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾.
واعلموا بأن البشر عندما يقولون: "عسى" فهي تفيد الترجّي، بينما تفيد القطع واليقين عندما يقولها سبحانه وتعالى: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾.
فهلّا عدتم إلى رشدكم ووضعتم بضاعتكم في فسطاط الحق قبل أن تصبحوا نادمين؟!
رأيك في الموضوع