بعد مضي ما يقارب السبعة عقود، على حكم ما يسمى بالأنظمة الوطنية في السودان، وتجربة ثماني نسخ من الدساتير الوضعية، والأوامر العسكرية المرتجلة، وعدد من الانتخابات التعددية، وثلاث حقب لحكومات مدنية، وثلاثة أنظمة عسكرية، وأربع فترات انتقالية، وأكثر من سبع اتفاقيات لما يسمى بالسلام؛ بعد كل ذلك، فلا تزال القوى السياسية عاجزة عن الوصول إلى الاستقرار السياسي، ولا يزال السودان والحال كذلك، ينتظر مزيداً من الانتفاضات الشعبية، والمحاولات الانقلابية المحتملة، واتفاقيات السلام الجزئية.
والعاقل الذي ينظر لواقع السودان، يرى أن هذه الحكومات المتعاقبة لم تصل إلى الاستقرار السياسي، ولم تحقق إلا المعاناة والشقاء، والمعيشة الضنكى التي يكابدها أهل السودان، بل يزداد التدهور يوماً بعد يوم، وتتولد في كل لحظة معاناة جديدة، فما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحال؟
لقد غاب معنى السلطة الحقيقي لدى أبناء الأمة، وأصبح موضوع الحكم مغنماً يتصارع حوله الكل، والوصول إليه لا بد أن يمر فوق الجثث، وخوض بحور من الدماء، فمن كانت قدرته على القتل أعظم، فنصيبه من الكيكة أكبر، وفي ظل هذا الصراع تحول الحكم والسلطة، وخطأ نظرة الحكام، والعاملين في الحقل السياسي، باعتبار السلطة صيداً ثميناً، من ظفر بها فقد فاز، وكانت نتيجتها كما ترون من سوء المنقلب، وهذا الفشل الذريع الذي لا يحتاج إلى دليل، والحديث عن نتائج الحكومات المتعاقبة، لو رُصدت لها الكتب فتملأ المجلدات، ولست بأعلم منكم بحجم الفشل الذي وصلت إليه هذه الحكومات، سواء العسكرية منها أو المدنية، انتقالية كانت أو منتخبة، أو مغتصبة، فكلها شاركت فيما نحن فيه من مآس. وكل ذلك لسبب واحد لا غير؛ هو عدم وجود رؤية سياسية مبنية على قاعدة فكرية صحيحة، ما يعني الارتماء في أحضان الكافر المستعمر، والاستنجاد به لدعم المواقف، واستدعاء التدخلات الأجنبية، من سفارات وأجهزة استخبارات وأمم متحدة، للاستقواء بها على المنافسين.
ولما كانت تلك الصراعات كلها هي من أجل الحكم والسلطان، كان لا بد للمسلمين أن ينتبهوا أن أمر الحكم والسلطان لم يتركه رسولنا الكريم ﷺ اختياراً يسلك كلٌ منا ما يشاء من طرق للحصول عليه، فالإسلام لم يدع أحداً بأن يكون حاكماً بانقلاب عسكري، يتسلط على رقاب الناس، ويفرض عليهم سلطانه بالقوة والقهر.
والإسلام لم يأمر أحدا بأن يتمرد على الجميع، فيقتل ويحرق، ويدمر القرى والحضر، والشجر والحجر، لكي يصل إلى الحكم رغما عن الناس رضوا به أم أبوا.
والإسلام لم يأمر أحدا بفتح مسارات جهوية، متخذاً حيل التفاوض الماكرة، والاتفاقات الخيانية، التي تسن لاحقاً دستوراً للبلاد، ليكون ذلك سلماً للوصول إلى كرسي السلطة.
والإسلام لم يأمر المرء بأن يقاتل أو يعتصم بنعرات قبلية أو طائفية، أو غيرها من أجل كرسي الحكم، فوق الجماجم والأشلاء والدماء، والخصومات والفتن! نعم لم تكن كل الطرق التي ذكرناها هي السبيل إلى الوصول إلى السلطة ولم تكن تلك الأنظمة التي تعاقبت على حكم بلادنا هي أنظمة الحكم الصحيحة التي تحقق معنى السلطة والحكم في الإسلام وصولا للعدل والرعاية السليمة والرفاه للناس.
إن الجيل الحاضر لم يعِ على الدولة الإسلامية التي تطبق الإسلام، فقد تم تخديرهم بمفاهيم جديدة عن الحكم والسلطان، تناقض ما أقره الإسلام، فهؤلاء يبحثون عن نظام الحكم في الديمقراطية، والمدنية، والفيدرالية، والجهوية، والوطنية، والقبلية... بينما يقول تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾، ويقول: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، فلا أحد منا يريد أن يكون مع الفسقة والظلمة والكفرة.
وقد يقول قائل، قد خُدعنا من قبل ممن رفعوا شعارات الإسلام، فلما دخلوا القصر تركوا الإسلام وراء ظهورهم. والحق يقال، فلو كنا نعلم حقيقة الحكم في الإسلام لما استطاع أحد أن يخدعنا، فكان الأمر عندهم مجرد شعارات، بينما الإسلام هو نظام حكم متكامل لكل شئون الحياة، وحتى لا يكون مجرد كلام، فإن دستور دولة الخلافة بين أيديكم، وسأعرض نظام الحكم في الإسلام نموذجاً، وهي تشمل كل الأنظمة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية، وسياسة التعليم، وغيرها.
فنظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة، وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم.
وإقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله سبحانه على المسلمين، وهو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي، يعذب الله عليها أشد العذاب. فالمخرج هو واحد لا ثاني له، أن يكون الحكم بالإسلام لا غير، والسلطان للأمة تعطيه لمن تقبل به، لينفذ أحكام الإسلام في نظامه الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، غير أن هناك أمراً مرتبطاً ببيعة الخليفة، وهو الحكم بما أنزل الله لا غير، فالعقيدة الإسلامية هي أساس الدولة، بحيث لا يتأتى وجود شيء في كيانها، أو جهازها، أو محاسبتها، أو كل ما يتعلق بها، إلا بجعل العقيدة الإسلامية أساساً له. وهي في الوقت نفسه أساس الدستور والقوانين الشرعية بحيث لا يسمح بوجود شيء مما له علاقة بأي منهما إلا إذا كان منبثقاً عن العقيدة الإسلامية.
فواجب علينا جميعا العمل الجاد المجد من أجل وجود السلطة والحكم على أساس الإسلام، فلهذا ندعوكم.
بقلم: الأستاذ محمد الحسن – ولاية السودان
رأيك في الموضوع