تستقبل الأمة الإسلامية شهر رمضان المبارك هذه السنة استقبالا مميزاً هو بمثابة قفزة كبيرة نحو النهوض من كبوتها والعودة إلى مركز الريادة والقيادة العالمية من جديد. فالمسلمون يستقبلون رمضان المبارك هذا العام وهم أكثر وعياً وأكثر جرأة في الحق وأكثر التصاقاً بهويتهم الإسلامية، وشوقاً إلى وحدتهم على أساس العقيدة الإسلامية. فالثورات العظيمة التي اندلعت في شتى البلاد، وآخرها الثورات في السودان والجزائر، هب أبناؤها هبة الأسود لإسقاط الأنظمة الحاكمة الطاغوتية وخرجوا ضد الظلم والفقر وضد النظام الرأسمالي العلماني الذي تُطبقه الحكومات بالوكالة عن أنظمة الغرب الكافر المستعمر وأذاق نظام الكفر هذا وقوانينه الوضعية الناس الويلات، وذلك ليس بجديد بل في آخر مائة عام ومنذ أن هدمت دولة القرآن، دولة رسول الله e، دولة الخلافة، هذه الدولة التي طبقت الإسلام على المسلمين وعلى غير المسلمين وحكمت بشرع رب العالمين وجعلت القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المصدر الوحيد للتشريع في جميع مناحي الحياة وأنظمة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية...الخ وحُكم القرآن في كل الأمور التي تحتاج إلى رعاية شؤون ومعالجات وحلول في حياة الرعايا على مختلف عقائدهم وعلاقاتهم داخلياً وخارجياً لتشهد البشرية على مدى قرون عصراً ذهبياً نهضوياً، أُنشئ على أساس العقيدة الإسلامية ونظام الإسلام الشامل، لم يمر على العالم مثله حتى هذه اللحظة، بل يعاني العالم اليوم من انحدار فكري وأخلاقي واقتصادي واجتماعي وسياسي... وهذه نتيجة طبيعية حين ساد أهل الظلم والفسق والكفر العالم وحكموا بغير ما أنزل الله في دول مدنية رأسمالية علمانية فصلت الدين عن حياة البشر فضاقت بهم السُبل.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾ [الإسراء: 9]
إذاً لقد ارتبط تحكيم القرآن بالسلطان والحكم وتطبيق شرع الله ارتباطاً أساسياً. قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]
فليس هناك حكم أحسن من حكم الله عز وجل، وبالحكم بما أنزل الله تعالى يتحقق العدل بين الناس وتسير البشرية على المنهج السليم الذي أراده لها الله سبحانه في طريق عزّها وكرامتها، ومجدها ورفعتها: قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. [المائدة: 15-16]
ولقد فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين وحكام المسلمين على مر العصور هذه الحقيقة وكان رمضان شهر الغزوات والانتصارات والفتوحات وتحريك جيوش دولة الخلافة من أجل نشر الإسلام وحمله للعالم أجمع، وتوحد المسلمون حينها في دولة واحدة وعلى راية رسول الله e في ظل خليفة أو حاكم واحد بلا حدود ولا سدود غربية استعمارية بين البلاد، والتي مزقت جسد الأمة وجعلت من المسلمين لقمة سائغة للكفار أعداء الدين كما هو حالهم اليوم حتى إنهم اختلفوا على يوم صومهم بسبب الأنظمة ومصالحها السياسية، وتحول شهر رمضان بغياب دولة القرآن إلى عبادات فردية وبرامج تسلية ولم يعد لشهر الصوم مغزى جماعيا أو عالميا ولم يعد رمزاً لقوة المسلمين ووحدتهم!
ولقد حرص سيدنا وقائدنا محمد e وحذا حذوه صحابته رضوان الله عنهم والخلفاء من بعدهم، حرصوا على أن تكون أغلب غزواتهم في شهر رمضان المبارك لتجتمع عبادتان عظيمتان هما الصيام والجهاد في دولة قوية عزيزة تتلو القرآن وتطبقه على أرض الواقع، ليخرج المسلمون منتصرين في جميع الأحوال والنتيجة إما النصر وإما الشهادة ولقاء الله تعالى في أيام الطاعة والتوبة والمغفرة والرحمة، ومن أهم هذه الغزوات "غزوة بدر الكبرى" و"فتح مكة"، ومعركة "حطين" واسترداد بيت المقدس من الصليبيين بقيادة صلاح الدين، و"فتح القسطنطينية" على يد السلطان العثماني محمد الفاتح وكانت تحقيقاً لبشرى رسول الله e بذلك الفتح المبين. ولقد كانت هذه الانتصارات بمثابة نقاط فارقة في تاريخ الإسلام والمسلمين على كل المستويات، تحققت فقط عندما طُبق نظام الحكم في الإسلام - نظام الخلافة - تطبيقاً عملياً مفصلاً على طريقة رسول الله e. والأمر ذاته إن أردنا نجاح الثورات اليوم فإن عتق رقبة الأمة الإسلامية من نيران أنظمة الكفر الجبرية يكون فقط بالعمل لإقامة دولة القرآن.
لقد سطر المسلمون بسيادة الشرع وقيادة خليفة المسلمين أروع الانتصارات والفتوحات في شهر رمضان المبارك أسوة برسول الله e، وعليهم اليوم أن ينتصروا مرة أخرى للإسلام بجعل شهر رمضان شهر القرآن شهر الاستخلاف والتمكين، والنصر على أعداء الإسلام. وعلى المخلصين الذين ثاروا وخرجوا ضد الظلم أن يعملوا جادين في سبيل إعلاء كلمة الله بقول كلمة الحق أمام سلطان جائر وإسقاط الطواغيت - عملاء الغرب الكافرفي بلاد المسلمين - بالمطالبة المستمرة بجعل القرآن والسنة أساس السلطان وأساس التشريع وأساس الدستور والقوانين، وعليهم أن يرفضوا كل الدعوات الأخرى الخارجة عن مبدأ الإسلام العظيم والتي رهنت رقبة المسلمين للغرب الكافر المستعمر، وإننا نستبشر برمضان المبارك خيراً ونفرح به ونسعد ونسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان ويبلغنا نصره وأن يكون رمضان هذا هو آخر رمضان للبشرية جمعاء بدون شرع الله العادل أساس الأمن والطمأنينة في دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذة غادة محمد حمدي
رأيك في الموضوع