لقد مرت بالمسلمين عقود من السنين عجاف، منذ فقدَ المسلمونَ دولتَهم دولةَ الخلافة، وتمزّقت بلادهم، وتحكّم الكافرُ المستعمرُ في حياة المسلمين بل في عقولهم، وصرفهم عن قضاياهم المصيرية في الحياة؛ فلم يعد رضوانُ الله غايةَ غاياتهم، ولم يعدِ الحكمُ بالإسلام، ولا وَحدةُ بلاد المسلمين من قضاياهم المصيرية، فصارت الدنيا أكبرَ همِّهم، ومبلغَ علمِهم، فاضطربت مقاييسهم واختلفت، وليس أدلَّ على ذلك من حال المسلمين مع شهر رمضان الفضيل، فهم يدركون خصوصية هذا الشهر، وعظمته عند الله تعالى، ولكن مع اضطراب المقاييس تحول هذا الشهر إلى شهر نومٍ وطعام وشرابٍ وسهرات ومسلسلات تغزو العقول والنفوس.
لقد عاش المسلمون قروناً مديدة في ظلّ حكم الإسلام؛ دولةِ رسولِ الله e، ثم دولة الخلافة، آمنين مطمئنين، كانوا يعيشون الحياةَ الدنيا وهم يتطلعون إلى الحياة الآخرة، ينتظرون شهرَ رمضانَ يوماً بيوم، ليغترفوا من الأجر العظيم، ولكن لم يكن يقتصر شهرهم على الصيام وبضع ركعات من التراويح...
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله e قال: «الصيامُ والقرآنُ يَشفعانِ للعبادِ يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: ربِّ إني منعتُه الطعامَ والشرابَ بالنهارِ فشفِّعْني فيه، ويقولُ القرآنُ ربِّ منعتُه النومَ بالليلِ فشفِّعْني فيه، فيُشَفَّعانِ»، لقد كان الصحابةُ الكرامُ رضي الله عنهم يقوم أحدهم الليل بالقرآن كله، وبعضهم يقوم الليل بنصف القرآن، وبعضهم بثلثه، فلا يكادُ أحدهم يترك وقتاً لطعامه.
أما نهارهم فلم يكن نوماً ولا راحة أو كسلاً، بل كان جهاداً وقتالاً في سبيل الله، لحمل دعوة الإسلام إلى الناس، فلم يكدْ يخلُ رمضانُ في تلك القرون المديدة من سرية أو غزوة أو معركة لقتال المشركين، لإدراكهم عظم أجر القتال في سبيل الله، فينشرون الإسلام، ويحملون الهدى للناس، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل جلساءَه يوماً: أي الناس أعظم أجراً؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة، ويقولون فلان وفلان بعد أمير المؤمنين. فقال: ألا أخبركم بأعظم الناس أجراً ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. قال: رُوَيْجِلٌ بالشام آخذٌ بلجامِ فرسه يكلأ مِنْ وراء بيضة المسلمين، لا يدري أسبعٌ يفترسه، أم هامّةٌ تلدغه، أو عدوٌ يغشاه؟ فذلك أعظمُ أجراً ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين. (حياة الصحابة 1/320).
وفي هذا الشهر الفضيل وقعت غزوات ومعارك فاصلة في تاريخ المسلمين، منها غزوة بدر، ومنها فتح مكة، ومنها فتح إسبانيا، ومعركة حطين، ومعركة البويب، وفتح النوبة، وعمورية، وغيرها الكثير الكثير، لقد اغتنم المسلمون في تاريخهم المجيد شهر رمضان ليجعلوه شهر انتصارات وفتوح، لقد كان شهر جهاد وقتال، كل ذلك لما كان للمسلمين دولةٌ واحدةٌ تحكمهم بالإسلام، يخاطب خليفتهم الأعداءَ بعزةِ الإسلام.
لكن الناظرَ في حال المسلمين اليوم لا يرى فيه ما يسرّ صديقاً ولا ينكأ عدوّاً، لا يرى فيهم إلا التفرقة والتمزق، والضعف والذلة والمهانة، يراهم مستسلمين لشرذمة من الحكام الرويبضات، يعيشون الحياةَ التي يفرضونها عليهم، حياةَ تبعيةٍ لدول الكفر، يتحكّمُ الكافر المستعمرُ في شؤونهم العامة والخاصة، عاثَ فساداً في بلادهم، فلا ترى فيها غير القتل والدمار، وإهلاك الحرث والنسل، ونهب الخيرات والثروات، يطبّق عليهم أحكامَ الكفر، يغزو عقولهم بالمفاهيم الرأسمالية والعلمانية، ويغزو بيوتهم بالشاشات الصغيرة التي تحمل السمّ الناقع في كل ما تبثه، وتجدهم يحرصون على متابعة تلك الشاشات وما فيها من مسلسلات تحارب الإسلام، وتشوّه صورته، وتنقل إليهم المفاهيم المناقضة لعقيدتهم من حيث لا يشعرون، وتصوّر لهم الحياةَ تصويراً مناقضاً لتصوير الإسلام، وتفرض عليهم النمط الغربيّ في العيش، فلم تعد الحياةُ عندهم سوى مالٍ يجمعونه، وبيتٍ يبنونه، وولدٍ لا يستطيعون تربيته على الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، وصار رمضان موسماً لأصناف الطعام والشراب وأصناف الحلوى في الليل، أمّا النهار فهو وقت الكسل والنوم، وبعض الأعمال الدنيوية.
لقد آن للمسلمين أن يعيدوا لرمضانَ هيبته وبهجته، عليهم أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم في الحياة، فيضعوا قضاياهم المصيرية موضعَها الذي تستحقه، فيجعلوا رضوان الله سبحانه وتعالى أسمى غاياتهم، ومقياساً لأعمالهم، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يعيشوا الحياة الإسلامية الصحيحة التي أرادها لهم الله سبحانه وتعالى، وعاشها المسلمون قبلهم، وذلك بإعادة الحكم بما أنزل الله بإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة التي هي وعدُ الله عز وجل، وبشرى رسولِه e، فيزيلوا سلطان الكفر عن بلادهم، وينعموا في حكم الإسلام ومفاهيمه النقية الصافية التي تقربهم من الله سبحانه وتعالى، ويعودوا ليحملوا رسالة الإسلام إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد، ويجعلوا من شهر رمضان شهر الطاعات، وشهر الانتصارات والفتوحات، وشهر القربات.
لقد بات من المحتّم على المسلمين لكي يحققوا ذلك أن ينضمّوا إلى صفوف حزب التحرير الذي وضع الإصبع على جرح الأمة، فيحملوا معه الدعوة للإسلام على طريقة رسول الله e، وينصروه لإيصال الإسلام إلى الحكم لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، فتتوحد بلاد المسلمين تحت راية خليفة واحد، يحكمهم بشرع الله، ويرعى شؤونهم بأحكام الإسلام، وحينها يعود المسلمون إلى مفاهيم الإسلام النقية الصافية، وتعود لهم العزة والكرامة، وتعود لهم المقاييس الصحيحة، والنظرة الصحيحة للحياة، ويعود شهر رمضان موسماً للطاعات بالمعنى الصحيح، وموعداً للنصر والفتوحات، نعيد فيه سيرة الأوائل العظام، سيرة رسول الله e، وسيرة الصحابة الكرام، وتابعيهم بإحسان.
بقلم: خليفة محمد – الأردن
رأيك في الموضوع