إن حضارة قامت على أهواء البشر التي لا تستقر على حال، وعقيدةٍ باطلةٍ كفصل الدين عن الحياة، وعقلٍ إنسانيٍ محدودٍ افترض خطأً أن الصراع على الموارد هو الأساس، وأن البقاء للأقوى... جديرةٌ بألا ينتج عنها غير الشرور والأزمات، وخراب المجتمعات وما يجره على البشرية من ويلاتٍ وآهات. وكل ذلك متجسدٌ - ولا شك - في زعيمة الإرهاب العالمي أمريكا... فلا ينبغي إذاً - والحال هذه - أن نحسن الظن بها مهما ادعت أو وعدت بأن ما تقوم به من جهود سياسيةٍ وحربيةٍ يراد به خيرٌ أو صلاحٌ لأهل الموصل خاصةً والعراق عامة، وكذا لأهل سوريا أو سواها من بلاد المسلمين... ذلك أن مقياسها في الحياة إنما هو مصلحتها فحسب، ولو أدى ذلك إلى إحراق العراق وأهله..!، وقد فعلت كل ما في وسعها لتدمير بلدٍ كان آمناً وتمزيقه شر ممزق، باحتلالٍ بغيضٍ فرض بالقوة العسكرية المفرطة فكانت محصلته أن ﴿جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾.
فلا نشكّ أن ما قامت به أمريكا لحد الآن يمكن أن يصب في مصلحة أحدٍ غير نجاح مشروعها الذي اصطحبته مع أسراب علوجها الأوباش لتقسيم وتفتيت العراق أولاً - لا مكنها الله عز وجل - ثم بلدان المنطقة لاحقاً، فاستعانت بكل ما أمكنها من أدواتٍ دوليةٍ كالتي عرفت بقوات التحالف الدولي لمكافحة (الإرهاب)، أو محليةٍ كالأنظمة العميلة في إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن... التي يتسابق حكامها الأذناب الأنذال سعياً وراء أجندة أمريكا مهما عرضوا خزائن أموال المسلمين لديهم للنفاد، وأبناءهم للفناء. فلقد رأينا كم دفعت إيران - على سبيل المثال لا الحصر - من أموالٍ أضرت باقتصادها، وقتل المئات من ضباطها وجنودها لإسناد نظام بشار المجرم، أو ما دفعت به للعراق من مليشياتها الطائفية التي أزهقت أرواح ألوف من إخوانهم أهل السنة مع تدمير ديارهم وتهجيرهم عالةً في الداخل والخارج وصولاً لأغراضٍ دنيئة. وها نحن نرى حكام تركيا يتمسكون مثلهم بفرية تحرير الموصل مهما كلفهم ذلك إخفاءً للدور الموكل إليهم في إنشاء إقليمٍ حقيرٍ بحجة تأمين حدود بلادهم ﴿يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
والفهم ذاته ينسحب على ما يتجمل به أجير أمريكا (العبادي) من أن على رأس أولويات جنوده هو تحرير أهل الموصل من ظلم تنظيم "الدولة" وحقن دمائهم والحفاظ على ممتلكاتهم، وكل الوقائع - بحسب فارّين أو صحفيين - تؤكد أن مدافع المليشيات الطائفية وصواريخهم، إضافة لما تلقيه طائرات الكفار من أسباب الموت الجماعي لا يفرق بين شيخٍ وامرأةٍ وطفل، فلقد باتوا بين المطرقة والسندان لأطراف النزاع... وها هي المنظمات الدولية تبذل جهوداً لإيواء أعداد هائلةٍ ربما تبلغ المليون لاجئ في ظروف قاسيةٍ مع قدوم فصل الشتاء، وقد صرح وزير الهجرة والمهجرين العراقي جاسم محمد، أن الوزارة خططت لإيواء (750) ألف شخص من مدينة الموصل. وبين الوزير في مؤتمر صحفي، أن (500) ألف من العدد المتوقع للنازحين، سيتم استقبالهم في المخيمات التي ستنشئها الوزارة لإيوائهم، بينما سيلجأ (250) ألفاً آخرون إلى القرى المجاورة لمدينة الموصل.
والحق أن ما يخطَّط لأهل السنة - الذين هم رأس الحربة في مقارعة الظلم وكراهية المحتلين - هو إحالتهم للاجئين بؤساء بعد تدمير ديارهم وجعلها أرضاً محروقة لا تصلح للعيش، لا سيما بعد تدمير بناها التحتية، لفسح المجال أمام إيران وأنصارها من بلوغ الحدود الشمالية والغربية دون عقبة تذكر لمد النظام السوري المجرم بأسباب البقاء... وهكذا يراد لأهل سوريا واليمن ومصر وتونس وغيرها، لأن أهلها أصحاب العقيدة الإسلامية الصحيحة التي هي أساس نهضتهم وعزهم.
أما حسم معركة الموصل طال الزمن أم قصر، فإن المتوقع ظهور مشاكل جمةٍ ربما هي أشد تعقيداً من تركة تنظيم "الدولة" وما اقترفته أيديهم بحق أهل المحافظة من عسفٍ وجور وأساليب مفزعة لقتل المخالفين لهم بأقل الشبهات. أما سبب توقع المشاكل فإنه آتٍ من إصرار الفرقاء على أن يحظى كل فريقٍ بحصة هناك، ويسوق من المبررات ما يعزز مطالبه... وفيما يأتي إيضاح ذلك:
أولاً: أهل الموصل على تنوعهم عانوا الأمرين من تصرفات أفراد الجيش قبل سقوط المحافظة بيد "التنظيم" تمثلت بالإهانات والإهمال وسبّ رموز الإسلام الموقرة لديهم، حتى إنهم رأوا في مجيء "التنظيم" طوق نجاةٍ لهم بادئ الأمر، فلا يودون تكرار المآسي إذا ما تواجد الجيش ذي الصبغة الطائفية في ديارهم من جديد، سيما وقد صار لهم من القوى المسلحة بالآلاف يقودهم (أثيل النجيفي) المحافظ السابق، وقد قامت تركيا بتدريبهم ودفع رواتب لهم ليكونوا حراساً لإقليم نينوى المزعوم، فضلاً عن رجال العشائر وضباط الجيش السابق، ما يمكنهم من الدفاع والإدارة بعيداً عن أوجاع الحكومة الطائفية في بغداد. وقد سوق لإقامة الإقليم آل النجيفي بالتعاون مع الأتراك والأكراد مع صمت بعض أركان الحكومة واعتراض البعض الآخر، وتخيلوا أن الإقليم سيضم (6- 8) محافظاتٍ تتمتع بإدارةٍ لا مركزية، وساقوا الكثير من المبررات الإنسانية والسياسية والاقتصادية متشبثين بدستور أمريكا الأعوج.
ثانيا: الأكراد الذين ضموا كثيراً من أراضي المحافظة بعد استرجاعها من "التنظيم" أو ما وضعوا عليه أيديهم أثناء الفوضى الحاصلة بدخول "التنظيم" مما سمي بالمناطق المتنازع عليها، كما حصل في كركوك بعد انسحاب الجيش منها... وكان زعيمهم (البارزاني) صرح مراراً أن ما تم تحريره بالدم فلن يعود لغيرهم...! ولا زالوا يتحدثون عن حقهم في إدارة نينوى بعد تحريرها، وطالبوا الحكومة الاتحادية من قبل الشروع بالمعارك أن يتوصل إلى اتفاقٍ بشأنها. فالأكراد - إذاً - في نزاع وصراع دائمين للاستحواذ على أراضي الموصل ولن يتساهلوا فيها لصالح أهلها العرب.! وباتت لهم قوة مشهودٌ لها في المحافل الدولية.
ثالثاً: المليشيات الطائفية المدعومة إيرانياً، هي الأخرى تصر أشد الإصرار على أن يكون لهم وجودٌ بارزٌ في الموصل وفق خطةٍ مرسومةٍ مسبقاً، خاصة المناطق الاستراتيجية وتحت ذرائع شتى، كالحيلولة دون عودة تنظيم "الدولة" مرة أخرى، وحماية جمهورهم من التركمان الشيعة في قضاء تلعفر، مع السعي لتحويله لمحافظة كاملة تكون جيبا يأوي إليه مرتزقة (خامنئي) ولكن بعد أعمال تطهيرٍ عرقيٍ متوقعٍ لمخالفيهم من العرب والتركمان السنة، وأن الأهمية القصوى لهم حاليا هي إيجاد ممراتٍ آمنةٍ والسيطرة عليها عسكرياً مهما كلف الأمر، تكون منافذ مهمة لدعم النظام السوري، ومده بالمساعدات العسكرية والبشرية في حربه الدموية لإجهاض الثورة السورية المباركة وفق الله تعالى المجاهدين والمخلصين منهم.
رابعاً: وليس هذا فحسب، فلا يزال في الجعبة الكثير من التعقيدات، فمن سكان الموصل أيضاً اليزيديون، وقد دخلت - على الخط - ألمانيا وعلى لسان (أنجيلا ميركل) بأنه ينبغي دراسة خطط لمنح اليزيديين العراقيين مناطق محمية يستطيعون العودة إليها في شمال البلاد... والمقصود قضاء (سنجار). والنصارى كذلك صارت الكنيسة تطالب بإنشاء محافظة كاملةٍ لهم في سهل نينوى، وهناك قومية أخرى تسمى (الشبك) وهم مجموعة سكانية تقطن في أكثر من (60) قرية منتشرة في مناطق متنوعة في شمال العراق وبالتحديد في محافظة نينوى يتحدثون بلغة خليط من الكردية والفارسية... وهذا كله (بفضل) الثقافة الأمريكية المستزرعة في العراق بعد احتلاله.
مما تقدم، يتبين حجم الصراعات التي ستظهر بعد انتزاع الموصل من "التنظيم"، ما يزيد في تفاقم الأزمة بسبب تنوع الولاءات لكل طرفٍ، ومقدار ما يحصل عليه من دعم. فإذاً، معركة الموصل ستزيد من الانقسامات الطائفية والعرقية، الأمر الذي يتخوف منه الساسة والمحللون للأنباء، متوقعين حرباً أهلية ربما امتد شررها إلى كامل العراق بانجرار عشائر المناطق الغربية والشرقية منه بفعل نفس المعاناةٍ والظلم والقهر وأنواع الانتهاكات المرتكبة بحقهم على أيدي المليشيات الطائفية والبيشمركة الكردية في المناطق الشمالية بصورة خاصة. والأمل معقودٌ على رجال تلك العشائر الأصلاء بأن ينتفضوا ضد الاحتلال البغيض، ويطهروا البلاد منه ومن أزلامه وأذنابه الذين كانوا عوناً له. وهكذا يتبين أن مطالب فئةٍ لا بد أن تكون على حساب الأخرى... فهل تقدر أمريكا على ضبط إيقاع تلك النزاعات؟ أما تركيا، فالمتوقع أن تنخرط في نزاعٍ مسلحٍ ضد المليشيات الشيعية، لأن المسؤولين الأتراك وعدوا بأنهم لن يسمحوا بالتغيير الديموغرافي لسكان الموصل ودعوا إلى ضرورة عودة التعايش بين المكونات المختلفة إلى سابق عهدها قبل أن تشيطن من قبل الكافر المحتل... الأمر الذي يعني نقصان حصص إيران وأزلام السلطة الطائفية في بغداد وهكذا.
وهناك النزاعات الكردية التي ستنشب بينها وبين الحكومة المركزية وأزلامها ومليشياتها على مشاكل معقدةٍ لم تستطع كل الأطراف - بما فيهم المحتل - حلها، وعلى طول السنوات العجاف التي مضت منذ العام 2003م كالفقرة (140) من الدستور الكفري لأمريكا، والمتعلق بالأراضي المتنازع عليها، ثم موضوع كركوك وما فيه من ثروات النفط والغاز وما يتعلق بهما من بيع وتصدير، ورواتب الموظفين في الإقليم الكردي المتوقفة منذ شهور.
وأخيرا، يرى مما تقدم أن أجواء العراق ملبدةٌ بالمشاكل، وسماءه تنذر بالرعد والصواعق المحرقة، نسأل الله العلي القدير أن يمن على الأمة بالنصر الشامل المبين الذي توضع فيه نهايةٌ لكل الآلام والأوجاع، مع طردٍ ماحقٍ للكافرين الذين أذاقوا الأمة أصناف العذاب، ليحيا الناس في ظل خلافة راشدة ثانية وصادقة على منهاج النبوة، فتقعد أمة الإسلام مكان القيادة والريادة في العالم، تلك المكانة التي أرادها الله عز وجل لخير أمةٍ أخرجت للناس، وما ذلك على الله بعزيز... ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع