تحت حمم القصف الجوي المدمر والشعور الثقيل بمعاناة المحاصرين الذين يعانون من شظف العيش في ظروف تزداد صعوبة في ظل تواطؤ الاستعمار الدولي المصر على إحكام قبضته الاستعمارية على الأمة الإسلامية ومنعها من تحطيم القيود التي كبلها بها بعد هدم دولة الخلافة، وبمشاركة حكام المسلمين من "الدول الصديقة!" لأهلنا في الشام التي تمتنع عن القيام بالواجب الشرعي في نصرتهم وإنهاء معاناتهم التي دخلت في عامها الخامس، ترتفع الأصوات التي تسعى للترويج لمقولة: ليس بالإمكان أحسن مما كان، وأن على القائد الحصيف أن يكون جريئا في انتزاع "سلام الشجعان" (المقولة الشهيرة لياسر عرفات لتبرير خيانته باعترافه بكيان يهود) ضمن الحد الأدنى من "الثوابت".
طبعا نحن ندرك أن مسار ما يسمى الحل السياسي هو مسار طويل، حتى بحسب الخطة المعلنة في فيينا والمستندة إلى إطار الحل المعلن في اتفاق جنيف1 (30/6/2012). وإطالة الزمن للحل مقصود من قبل أمريكا لتتمكن من تذليل العقبات التي تقف في وجه تجديدها لقبضتها على سوريا في مرحلة ما بعد الأسد، كما صنعت في مصر حين أوعزت إلى عميلها مبارك بتسليم زمام السلطة إلى عميلها الطنطاوي الذي نصب نفسه وعصابته في المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر في منصب الأمناء على إنجازات ثورة 25 يناير، وهم الذين قادوا مصر في نفق "المرحلة الانتقالية" ريثما تتمكن أمريكا من صياغة العهد الجديد الذي يضمن إبقاء مصر في السكة الأمريكية وهو ما حصل فعلا، بغض النظر عن الانتخابات المزعومة.
وما يمكّن أمريكا من تنفيذ حلها غياب الرؤية المبدئية الواعية عند قيادات الفصائل الثورية في سوريا، الذين تارة يتوهمون أن السعودية تناصرهم وأن تركيا تساندهم وأن قطر تريد نصرة دين الله وإعلاء كلمته.
فالسؤال البسيط الذي لا بد من طرحه: ما هي الثوابت التي انطلقت ثورة الشام لتحقيقها؟ نحن في وضع لا يسمح بالغمغمة والتمتمة والتيه في شعارات مبهمة فضفاضة، بل لا بد من الجهر الصريح بأننا لا نقبل الدنية في ديننا، وأن الله سبحانه قد أكمل لنا الدين وأغنانا عن اقتباس شرائعنا من عند أعدائنا الذين يتربصون بنا شرا.
إن أدنى فهم للواقع السياسي لسوريا، وللمنطقة بأكملها، يرينا أنّ العدو الأساس هو الاستعمار الغربي وعلى رأسه أمريكا، وطبعا أدواتها من حكام المسلمين: سواء الأردن الذي أوكل إليه مهمة فرز الفصائل بين معتدل ومتطرف، أو السعودية التي كلفت بمهمة تشكيل وفد موحد ليوقع على الحل الأمريكي، أو تركيا التي تتابع إعطاء جرعات مسكنة تخفف من سكرات الموت الزؤام ريثما تتمكن أمريكا من فرض حلها المزعوم، أو إيران التي لا تستحي من التبجح بسقوط المزيد من شبابها ورجالها تحت الزعم الكاذب في مواجهة الخطر التكفيري، بينما هم يدافعون عن النظام البعثي العلماني الكافر خدمة لمصالح أمريكا التي تضن بسفك دماء أبنائها خدمة لمشروعها الاستعماري فقد كفاها فقهاء إيران مؤونة ذلك. ولم تتورع أمريكا عن الزج بالدب الروسي في محاولة يائسة لقمع الثورة.
وقد وردنا بيان صادر عن الدائرة الإعلامية في المكتب الشرعي العام التابع لأحرار الشام في 18 تشرين الثاني، حيث جاء فيه:
"بدت توصيات مؤتمر فيينا تحمل في طياتها تهديدات مبطنة للشعب السوري المسلم بوضعه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التنازل عن ثوابت دينه ومنطلقات ثورته، وإما أن يصنف على لائحة الإرهاب فتجتمع عليه الأمم جميعا وترميه عن قوس واحدة. إن شعبا صبر وتحمل المعاناة طيلة خمس سنوات لن يقبل الأجندات الخارجية التي لم تقارب مستوى الألم والأمل، وخياره الوحيد هو خيار نبيه e... ونذكر بتغريدة قائد الحركة أبو عبد الله الحموي الذي قال فيها "لكل طارقي أبواب الغرب من أبناء جلدتنا أما يكفيكم بيانا لنفاقهم ما يفعلونه في مالي والصومال وغيرها ألا فتعسا لمن يتعامى عن الشمس".
ونحن إذ نثمن ما جاء في هذا البيان الذي ما زلنا نتثبت من صحته، نتساءل هل هذا فعلا يعكس الموقف الرسمي لحركة أحرار الشام؟ وكيف نجمع بين البيان وما سبق أن صدر من مواقف عن لبيب النحاس في مخاطبته لقادة الكفر في أمريكا لاعتمادهم الأحرار "فريقا معتدلا"؟ وأيضا مشاركة "الأحرار" في اجتماع اسطنبول الذي أكد التعامل بايجابية مع الأمم المتحدة؟
لقد اقتربت ساعة الحقيقة وعلى الجميع أن يصدقوا الله سبحانه فيكونوا صريحين في مواقفهم وفي تحديدهم الصديق من العدو وفي تبنيهم للمشروع السياسي القائم على العقيدة الإسلامية غير آبهين بمعارضة قادة الكفر ولا عملائهم من حكام المسلمين. ولقد سبق لحزب التحرير أن دعا في غير موضع جميع المخلصين لتبني ميثاق الخلافة، مستمدين أسباب النصر من رب العالمين.
لقد فات أوان ازدواجية الخطاب الذي يحاول الإمساك بالعصا من وسطها ما بين أولئك الذين يؤثِرون مرضاة الله وأولئك الذين يخشون كيد الدول الكافرة.
طبعا يلجأ هؤلاء إلى تقديم جملة من التبريرات التي يلبسونها لبوس الحجج الشرعية تحت باب السياسة الشرعية التي تستدل بعناوين شتى من "فقه الواقع" وقواعد شرعية مثل "أهون الشرين أو أخف الضررين" أو "درء مفسدة مقدم على جلب مصلحة" ...الخ، هذا مع رفع شعارات مطاطة ضبابية تهون سكرات الموت، مثل قول أبي محمد الصادق الشرعي العام السابق لأحرار الشام (في مقابلته مع مجلة إيحاءات جهادية العدد الثاني) "إننا نلتقي مع الجميع ضمـن سـقوف مشـتركة يحفـظ لنــا كليــات الديــن ويضمــن لنــا عــدم تجــاوز قطعياتــه ويجــب علينــا أن نــدرك أن معركتنــا هــي معركــة الحفــاظ علــى ثوابــت الشــريعة التــي لا منــاص عنهـا، وأي شـكل مـن أشـكال الدولـة يضمـن لنـا عـدم الخـروج عـن قطعيـات الشـريعة وكلياتها ويحقــق مطالــب الشــعب هــو شــكل مقبــول لنــا وكل مــا زاد عـن ذلـك الحـد هـو مرغـوب محبــوب نســعى لــه مــا أمكــن. لكــن ينبغــي ألا نســبح فــي فضـاء المأمـول المثالـي المتعـذر ونفــرط بالممكــن الواقعــي المقبـول... وفـي المبـاح والمتـاح والمســكوت عنــه فســحة لنــا وهـو بـاب واسـع فضـلا عـن بـاب المختلــف فيــه اختلافــا معتبــرا ســائغا لا مجــال للإنــكار علــى المخالــف فيــه. ولا ضيــر أن نخاطــب النــاس بمــا تعــودت أســماعهم مــن مصطلحــات طالمــا أنهــا لا تخالــف شــرعنا ولا ضيــر فــي تعــدد آليــات تشــكيل الدولــة فهـو بـاب واسـع وأس الصراع فيه هـو إسـلامية الدسـتور وهـو ممـا لا مســاومة فيــه أو تنــازل عنــه"
هذا الكلام الضبابي يفتح الباب واسعا لإدخال مصطلحات ملتبسة من قبيل "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية" والديمقراطية الإسلامية وغير ذلك من المقولات التي تنتهي إلى تجديد القبضة الاستعمارية كما شاهدنا في مصر وتونس.
ومن ذلك تصريح القائد العام للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام الشيخ أبو محمد الفاتح السبت (28 تشرين الثاني) على أن "أي مبادرة مشرفة تحافظ على ثوابتنا وإنجازاتنا، ويكون فيها حقن للدماء وإيقاف للقتل في أرضنا، فواجب على كل مجاهد وثائر وفصيل أن يقبل بها لأن الموت والقتل ليس هدفنا"، معلنا أن "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام قد فوضنا الهيئة السياسية في الغوطة الشرقية، وما تقوله هو ملزم لنا".علما أن الهيئة السياسية المذكورة لم تقدم مشروعا سياسيا يعتد به، بل هي تضم "أشخاصا منتخبين لهم توجه سياسي، ولديهم الكفاءة الكافية للعمل السياسي والخبرة السياسية والثورية" كما قال الناشط "أبو عدنان" أحد أعضاء الهيئة العامة في حديثه لـ "كلنا شركاء". وأردف بأن من أعمال الهيئة السياسية الأخرى هي عرض الأمور السياسية، وإيجاد الحلول السياسية ودراستها وإقرارها، حيث تستطيع هذه الهيئة والتي تتألف من 20 عضوا، إقرار أي قرار سياسي دون الرجوع للهيئة العامة للغوطة الشرقية.
فهل يؤتمن على مصير الثورة بأيدي هؤلاء دونما برنامج يلتزمون به ويحاسبون على أساسه؟
ونذكر بما رواه الإمام البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله e وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
وندعو الجميع من أبناء الإسلام البررة، وأولهم القادة المخلصين للفصائل الثورية الذين خرجوا لنصرة دين الله ولإرغام دول الكفر، أن ينبذوا حبل أمريكا وعملائها، وأن يعتصموا بحبل الله المتين متأسين بقول رسول الله e لعمه: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته». ونحذرهم من التولي عن أمر الله ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.
رأيك في الموضوع