كثر الحديث مؤخرا عن استراتيجية كيان يهود للهيمنة على الشرق الأوسط وسعي رئيس وزرائه نتنياهو لتغيير الواقع الاستراتيجي للشرق الأوسط، والحديث عن دولة يهود التوراتية الممتدة ما بين النهرين؛ النيل والفرات، في ظل الحرب التي يشنها يهود على قطاع غزة والضفة الغربية، وكذلك جنوب لبنان، والتهديد باجتياح الجنوب لإرجاع حزب إيران إلى ما وراء الليطاني، وكذلك ضرب إيران والحوثيين في اليمن، وأهداف عسكرية في سوريا والعراق، كل هذا وغيره من التفاصيل ذات العلاقة بالحرب وطولها وامتدادها يستدعي الوقوف على المشهد السياسي لقراءته والتفكير بمدى قدرة يهود على تحقيق أحلامهم، ومدى مطاوعة أمريكا لهم، وقدرة الأمة على إفشال مخططاتهم.
بداية لا بد من الإشارة إلى أن قادة يهود، وعلى رأسهم نتنياهو وقادة اليمين المتطرف، قد خرجت منهم تصريحات كبيرة بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م، وصلت إلى حد إخراج كل أحلامهم التوراتية والعقدية، فتفوهوا بتصريحات ومخططات يعلم القاصي والداني أنها فوق حجمهم وطاقتهم وأنهم لا قبل لهم بها.
فجزء كبير من تلك التصريحات إما من قبيل دغدغة مشاعر قواعدهم الشعبية؛ المستوطنين والمتدينين واليمين، وإما أنها خرجت من شخصيات ليست سياسية ولا علاقة لها بالنظرة السياسية للبلاد كسموتريتش وبن غفير.
أما من جهة شخصية مثل نتنياهو، فهو عندما يتحدث عن "تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط"، فهو أكثر واقعية، فهو يشير إلى أهداف سياسية وعسكرية تتعلق بتعزيز موقع كيان يهود الإقليمي، وتغيير الواقع الاستراتيجي بشكل يجعله أكثر أمنا واستقرارا في مواجهة التهديدات المتعددة، سواء من حركات المقاومة الفلسطينية، أو من حزب إيران في لبنان، أو من إيران نفسها، أو حتى التحولات الجيوسياسية في المنطقة.
فإنه بلا شك أن أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 قد فرضت تحديات جديدة على كيان يهود لم تكن بالحسبان، فقد أدرك يهود مدى هشاشة كيانهم، وأن التهديدات أقرب إلى الوجودية على المدى القريب، ووجودية على المدى البعيد، وهو ما فرض عليهم تحديات جديدة دفعت نتنياهو إلى إخراج كل تخوفاته ومعتقداته وهواجسه، على نحو أدى إلى دخوله في معركة طويلة امتدت لعام وما زالت مستمرة، ولعله هو نفسه بات لا يعلم متى ستنتهي ولا كيف ستنتهي.
فصحيح أن من مصلحته الشخصية هي استمرار الحرب وإطالة أمدها من أجل طي ملفات فساده وملاحقته قضائيا، ولكن دون أن تكون نتيجتها كارثية على كيانهم. لذلك نلاحظ أنه عندما تمادى فيما يتعلق بالمساس المباشر بإيران ومصالحها، وجاءه الرد الأول في نيسان/أبريل 2024، على شكل رسالة وضعت له كوابح كبيرة، خفض من أحلامه وغطرسته، على الرغم من أن الرد كان هزيلا ولكنه أفاقه هو وقادة يهود من سكرتهم التي دخلوا فيها بعدما رأوا أنفسهم يقتلون ويدمرون ويحرقون الأخضر واليابس في قطاع غزة دون حسيب ولا رقيب، ولا عواقب وخيمة عسكريا.
ثم لما عاد وتمادى مجددا بحق إيران، فجاءه الرد برسالة أقوى من الأولى، مفادها أن إيران قادرة على الإضرار بشكل قوي بكيان يهود إن أرادت، وأنها إن فرض عليها الدخول في الحرب مع يهود فهي قادرة على إيجاعهم رغم كل تحالفاتهم وأوليائهم، ولذلك نرى قادة يهود لغاية اليوم ما زالوا يتشاورون ويتفاوضون مع أمريكا على الرد وحجمه وكيفيته، مع ضمان بقاء المحددات الأمريكية وهي عدم الانجرار إلى حرب شاملة أو مواجهة حقيقية.
وكذلك الحال فيما يتعلق بالجبهة الشمالية مع حزب إيران، فمن الواضح أن نتنياهو أدرك أن بقاء مناوشات حزب إيران مستمرة وربط توقفها بوقف الحرب على غزة، يعني ذلك اضطراره إلى التعجيل بالخروج من غزة وفق رؤية ما بعد الحرب لا بد أن توافق عليها أمريكا، لذلك شعر بالحاجة إلى محاولة تأمين جبهة الشمال لإرجاع علوجهم إلى حياتهم الطبيعية، للتفرغ لإكمال مشوار غزة، لذلك قاموا بالعدوان على لبنان والمقاومة وقادتها وبشكل متصاعد وقوي وإجرامي لوضع حد لتدخل حزب إيران، ومن أيام وهم يحاولون الدخول البري لزيادة الضغط وإجبار حزب إيران على التراجع ووقف المناوشات، ولا يبدو أنهم لغاية الآن قادرون على تحقيق أهدافهم، خاصة في ظل بروز تحديات جديدة، مثل رفض قوات اليونيفيل الانسحاب، ومواصلة إيران دعم حزبها عسكريا ومعنويا وسياسيا، واكتشاف قدرات عسكرية لحزب إيران في المناطق الحدودية لم تكن بالحسبان.
وعلى صعيد قدرة يهود على تحقيق أحلامهم الكبيرة، فيبدو أنها بدأت تتضاءل مع الوقت بعد أن أدركوا أنهم إنما يحاربون بسيف أمريكا والغرب، وأنهم بمفردهم عاجزون عن التمادي أو تغيير الوقائع، فمثلا أمريكا منذ البداية وضعت خطوطا حمراء أدرك يهود أنهم لن يستطيعوا تجاوزها، كمسألة التهجير وإنهاء حل الدولتين وشن الحرب الإقليمية، وتركت لهم الباقي والتفاصيل ليفعلوا ما يشاؤون طالما أن الثمن هو دماء وبلاد ومقدرات المسلمين التي لا تساوي شيئا عندها، بل هي هدف بحد ذاتها.
فأمريكا تترك المجال ليهود للقتل والغطرسة والإجرام في غزة والضفة ولبنان واليمن والعراق وسوريا، طالما أن الأمر بالنهاية لن يقوض رؤيتها أو مشاريعها للمنطقة، ولكنها تضيق عليهم الخناق عندما يتعلق الأمر بتهديد رؤيتها للمنطقة.
وفي المحصلة، أمريكا ويهود ومعهم الغرب، يستحلون دماء المسلمين وبلادهم ومقدراتهم، وكلهم يد واحدة على المسلمين، فهم يعتبرون كيان يهود قاعدتهم الاستعمارية المتقدمة في البلاد الإسلامية، وهم معنيون بدعمها وحفظها وتطويرها وتفوقها، ويمدونها بكل ما تحتاج من سلاح ومال ودعم سياسي ولوجستي، ويوفرون لها العملاء من حكام وأشياع، ويحرسون حدودها، والتهديد الذي برز بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو بمثابة تهديد لكل الغرب وحكام المسلمين ويهود ولذلك هم مجمعون على إنهاء التهديد وترتيب الأوضاع.
ولكن حال يهود، كمن يسوق نفسه إلى حتفه بنفسه، فهم يدخلون في مواجهة مع الأمة، التي لا قبل لهم بها، فالأمة ومقدراتها عظيمة، ولا يستطيع يهود ولا أمريكا الوقوف في وجهها إذا ما أخذت زمام أمرها، واستعادت سلطانها، والأمة اليوم باتت تغلي كالماء في المرجل، وتكاد تخرج عن سيطرة الحكام.
وقد شاهدت الأمة بعينيها هشاشة كيان يهود، والإمكانيات الكبيرة التي تملكها جيوشها إن تحركت وصدقت الله، فبات الأمر عند الأمة محسوما بأن المسألة هي مجرد امتلاك الإرادة، وليس ضعفا أو عجزا.
فنسأل الله أن يلهم الأمة وأهل القوة والمنعة فيها ليسلموا زمام أمرهم إلى قيادة ربانية، تعلنها خلافة راشدة على منهاج النبوة وتسخر الأمة وقواتها لحفظ بيضة الإسلام والمسلمين، وتحرر الأقصى وكافة بلاد المسلمين المحتلة.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع