لقد رسمت أعمال الحرب على غزة صورة وحشية لم يعهدها التاريخ الإنساني إلا في العصور الغابرة؛ كالحروب الصليبية، وحرب المغول على ديار الإسلام في الشرق الإسلامي، وفي بلاد الأندلس، وأعمال الحرق والتدمير والقتل والتنكيل الذي مارسه الصليبيون والمغول في تلك الحقبة، أو في الحروب المدمرة التي حصلت في بدايات وأواسط القرن الماضي، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو ما جرى في حرب البوسنة والهرسك، وحرب العراق وأفغانستان... وغير ذلك من حروب مدمّرة شهدها العالم قديما وحديثا!!
وقبل أن نتحدث عن موقف الولايات المتحدة من حرب غزة، وأثر ذلك على سمعتها الدولية والإقليمية، وعلى قيمها وأخلاقها ومبدئها بشكل عام، لا بدّ أن نُذكّر بحقيقتين مهمتين في هذا الموضوع؛ الأولى: شبه التفرد والهيمنة الأمريكية في سياسة العالم اليوم، وعدم وجود منافس أو شريك قوي يستطيع أن يؤثر في هيمنة أمريكا وسطوتها، والأمر الثاني: هو محاولات أمريكا المستميتة للمحافظة على هذه المكانة، واستخدام كلّ الأساليب المنحطة القذرة في الدبلوماسية والحروب العسكرية، وتسلطها على دول العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا... وغير ذلك من أساليب قذرة منحطة!! فما جرى وما زال يجري في العالم منذ سنة 1990م حتى اليوم 2023م؛ سواء أكان ذلك في الحروب التي خاضتها أمريكا ضد دول كثيرة؛ مثل الحرب على العراق سنة 1991 ثم الحرب على أفغانستان والعراق سنة 2003، والتفرد والتحكم الاقتصادي عن طريق الدولار، وهيمنته العالمية على باقي العملات، وتحكّمها كذلك بالمؤسسات الدولية الفاعلة، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وعدم وجود منافس فاعل يؤثر على أعمال أمريكا فعليا، ونجاحها في معظم أعمالها، دون أي إعاقة من دولة فاعلة توقف هذه العجرفة والتسلط والصلف والعربدة الدولية، حتى باتت تتحكم بالقرار السياسي في دول كبرى، أو منظومات دولية كالاتحاد الأوروبي كما حصل في جرّه خلفها في الحرب الأوكرانية، مع أنه المتضرر الأكبر من هذه الحرب!
كل ذلك يدلّل بشكل لا شك فيه بأن أمريكا تسوق العالم اليوم بالعصا الغليظة، وتتحكّم بسياسته واقتصاده، ومصائر الشعوب في الحرب والسلم؛ وذلك من أجل خدمة مصالحها الاستعمارية من جانب، ومن أجل بقاء هذه الهيمنة واستمراريتها من جانب آخر!
إن الحرب المدمرة على غزة هاشم ترتبط صورتها الوحشية مباشرة بأمريكا، وأهدافها وسياساتها العالمية؛ من أجل بقاء الهيمنة والتسلط، ومن أجل بقاء العالم مزرعة لها تتحكّم فيه كيف تشاء. وليس أدلّ على هذه الحقيقة من قيام الرئيس الأمريكي مباشرة، وجميع الكادر السياسي الأمريكي بالإشراف على توجيه سياسات اليهود، والوقوف بجانبهم ماديا ومعنويا وإعلاميا وفي كل المجالات، وتسخير دول المنطقة العميلة لأمريكا؛ بالامتناع عن مساعدة أهل غزة ولو بشربة ماء أو كسرة خبز إلا بإذنها وإذن يهود، والتنسيق عن طريق مؤسساتها الدولية والإقليمية بعد أخذ الإذن. ومنعت أيضا تمرير أي قرار دولي في مجلس الأمن لإيقاف الحرب، أو تجريم يهود بسبب ما فعلوه من جرائم تفوق الوصف.
فقد صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن في بداية الحرب في 7/10/2023 قائلا: "إن دعم بلاده لـ(إسرائيل) "صلب كالصخر" و"راسخ" بعد الهجوم الذي شنّته حركة حماس.. اليوم يتعرض شعب (إسرائيل) لهجوم من منظمة إرهابية هي حماس.. في هذه اللحظة المأسوية أودّ أن أقول له وللعالم وللإرهابيين في كل مكان: إن الولايات المتحدة تقف إلى جانب (إسرائيل). لن نخفق أبداً في دعمهم". أما وزير خارجيته بلينكن فصرح في 3/11/2023: "بضرورة تمكين الجيش (الإسرائيلي) من هزيمة حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، مشدّدا على حق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها". وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جون كيربي في 23/10/2023: "إن المساعدات الأمنية الأمريكية لـ(إسرائيل) مستمرة في التدفق بشكل يومي، مشيرا إلى أن البحرية الأمريكية تواصل تعزيز انتشارها في المنطقة من أجل إرسال إشارة ردع قوية إلى أي جهة قد ترغب في توسيع الصراع"، وأضاف "نركز حاليا على التأكد من أن (إسرائيل) لديها ما تحتاجه لمواصلة عملياتها ضد حماس والإرهابيين الذين ارتكبوا هذه الفظائع في السابع من أكتوبر، وهذا يشمل تقديم مساعدات أمنية".
إن ما جرى في غزة هاشم من قتل وخراب ودمار وتشريد وتشتيت وتهجير، وقتل للمرضى في المستشفيات، بمن فيهم الأطفال الرضع والكوادر الطبية... يفوق الوصف؛ لأن هناك أموراً لم تتكشف بعد، ولم يشاهدها العالم، وقد شبهها بعضهم فقال: لقد كانت أشبه بقنبلة نووية ألقيت على غزة!! والأكبر من ذلك كله هو الحصار الخانق من جميع الجوانب، لدرجة حرمان الناس من أبسط الحقوق الإنسانية؛ كالطعام والشراب والمأوى، والتداوي... وهي الحاجات الأساسية الثلاث الضرورية لاستمرارية العيش والبقاء!! ومهما وصفنا وتحدثنا فلن نوف هذا الأمر حقه؛ لأن الحقائق ما زالت تتكشف في كل ساعة عن حجم هذه الجريمة بحق الإنسانية!!
إنه لم يعد يخفى على القاصي والداني في العالم، مسئولية أمريكا المباشرة عن هذه الحرب، وبروز دورها فيها بشكل صريح حتى داخل أمريكا نفسها، وداخل كيان يهود من قبل بعض الشخصيات السياسية والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني فيها... فقد صرح المرشح الرئاسي الأمريكي المستقل كورنيل ويست في 28/10/2023 في لقاء تلفزيوني: "موقف الإدارة الأمريكية الداعم لـ(إسرائيل) الذي وصفه بأنه "غير أخلاقي"، وكذلك "ازدواجية المعايير التي يتعامل بها الإعلام الأمريكي مع ضحايا الحرب". وفي 9/11/2023 كشفت مجلة بوليتيكو الأمريكية، بأن موظفي وزارة الخارجية الأمريكية وجّهوا "انتقادات لاذعة" لتعامل إدارة بايدن مع الحرب التي تشنها (إسرائيل) في غزّة.. وطالب الموظفون، في مذكرة احتجاجية، بأنه على إدارة بايدن أن تتمكن من انتقاد (إسرائيل) علانية. وداخل كيان يهود نشرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل بتاريخ 13/11/2023 مقالة للكاتب يوسي كلاين هاليفي استشهد فيها بما تعرض له اليهود على أيدي النازيين، يما يُعرف بالهولوكوست، فقال: "تعاني (إسرائيل) من انفصال أخلاقي عن المجتمع الدولي؛ في وقت تحاول فيه تجاوز محنة السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، "وتقف فيه في مواجهة موجة من معاداة السامية" جددت المخاوف التي أعادت صدمة العزلة إلى المشهد بقوة".
يتبع...
رأيك في الموضوع