تزامنا مع الملاحقات القضائية في أمريكا للرئيس السابق ترامب، تأتي الأخبار المشابهة لها في البرازيل مع الرئيس السابق بولسونارو، فقد نشر على الموقع الإلكتروني لقناة الجزيرة بتاريخ ١٧/٠٦/٢٠٢٣، الخبر التالي "الشرطة البرازيلية تعثر على خطة انقلاب عسكري على هاتف مساعد بولسونارو"، فهذا الخبر وغيره في المشهد السياسي البرازيلي تؤكد الارتباط الوثيق بين واقع الصراع السياسي الدائر في البرازيل ومدى ارتباطه بالصراع الداخلي في أمريكا. ولفهم تسلسل الأحداث ودلالاتها في المشهد السياسي البرازيلي نوضح جملة من أبرز الأحداث.
كان الترتيب الأمريكي واضحاً في اعتماد بولسونارو ابن المؤسسة العسكرية التابعة بالولاء الكلي لأمريكا، والتي هي أداة أمريكية عريقة، ورجالها هم رجال أمريكا، ومنهم بولسونارو. وتزامن اعتماد بولسونارو في الحكم مع فترة حكم ترامب في أمريكا، وفي ظل خلافات الدولة العميقة في أمريكا، صار ترامب يحشد النفوذ الخارجي في أوساط العملاء والتابعين لأمريكا لحسابه وحساب حزبه وتياره الخاص، وكان نصيبه في البرازيل تيار صاحبه بولسونارو. وفي فترة حكم بولسونارو كان الخطاب السياسي يستعطف فئة الكنائس النصرانية المحافظة وكذلك رجال الأعمال والتجار الصغار والقطاع الزراعي وسائقي الشاحنات. وهذا أكسب تيار (بولسونارو - ترامب) والمؤسسة العسكرية سنداً شعبياً ودينياً كاسحاً.
ولكن ما إن خرج ترامب من الحكم واعتمدت الإدارة الأمريكية الجديدة إعادة الدولة العميقة ممثلة بـ(التوكانوس وتوابعهم ومحطة غلوبو وشقيقاتها) وقاموا بالترويج لرئيس البرازيل السابق لولا، عبر بوق أمريكا الإعلامي قناة سي إن إن برازيل، كان الترتيب لتقديم لولا لخوض الانتخابات الرئاسية بعد أن تمت صفقة إخراجه من السجن وإلغاء المحكمة الدستورية العليا لحكم السجن بحقه بحجة عدم الاختصاص. فقد استطاعت أمريكا وأدواتها توصيل لولا للحكم وقد كان واضحا التلاعب بنتائج الانتخابات ومحاولات دفع الرأي العام لقبول لولا مجددا، فكان التزوير في استطلاعات الرأي لنتائج السباق الرئاسي لصالحه عكس ما أظهرته الجولة الأولى عمليا من تقدم بولسونارو، وكذلك المفارقة غير المنطقية بالنجاح الكبير لكل المرشحين لحكم الولايات ومجلس الشيوخ والنواب ممن هم حلفاء لبولسونارو في مقابل خسارة بولسونارو نفسه في الانتخابات الرئاسية! ولكن تمت العملية الانتخابية كما أرادتها أمريكا وأُوصل لولا مجددا لكرسي الرئاسة.
وتجلى لأمريكا مدى تأثير ترامب على تيار بولسونارو في البرازيل، بما في ذلك من خطر انقسام المؤسسة العسكرية أو تمردها على الإرادة الأمريكية الرسمية لسيرها مع تيار ترامب. ففور إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية بفوز لولا، حصل تحرك أصحاب الشاحنات في الشوارع الرئيسية الكبرى الواصلة بين المدن والولايات البرازيلية، وكان هذا التحرك بدعم وتسهيل من الجهات الأمنية الميدانية، ما أفصح عن ترتيب مسبق لهذه التحركات وكان الهدف من ورائها الدفع بالمؤسسة العسكرية للتدخل بإلغاء نتائج الانتخابات وإعلان الانقلاب العسكري بحجة الاستجابة لطلب الشارع ووقف التزوير. ومن هنا وكما ثبت فيما بعد كان واضحا أن جهات من المؤسسة العسكرية مترددة في قبول النتائج برغم الترحيب الأمريكي الفوري بها، بل إن جهات في المؤسسة العسكرية عندها مشروع انقلابي يستمد سنده من جهات أمريكية مخالفة للرغبة الأمريكية الرسمية.
ولذلك مشت أمريكا في سياسات القضاء التام على هذا التيار سواء في الوسط السياسي أو المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال، وفي هذا السياق كانت الملاحقات القضائية لوزراء سابقين مثل وزير العدل الأخير لحكومة بولسونارو، والعزل لحكام ولايات مثل حاكم المقاطعة الفيدرالية برازيلية - العاصمة، وسياسيين مثل عزل النائب والقاضي ديلتان، وفتح ملفات فساد مالي في مؤسسات تجارية كبرى مثل سلسلة متاجر أمريكاناس، وحتى تغيير قائد الجيش المقرب من بولسونارو بآخر مقرب من كبير التوكانوس الرئيس السابق فيرناندو إنريكي كاردوسو، وأخيرا وليس آخرا الملاحقة القانونية للرئيس السابق بولسونارو. وفي سبيل تحقيق كل ذلك تم استدراج جماعة بولسونارو لمحاولة الانقلاب التي كانت شرارتها أحداث اقتحام المباني السيادية الثلاثة في العاصمة برازيلية في الثامن من كانون الثاني 2023، ووصف المشاركين في أعمال الشغب من أتباع بولسونارو بالإرهابيين من جانب الإعلام الرسمي في البرازيل وسي إن إن برازيل، وكذلك من الجهات الحكومية.
نعم إن أحداث اقتحام المباني السيادية الثلاثة في العاصمة برازيلية كانت باستدراج أمريكي والدولة العميقة لجماعة (بولسونارو - ترامب)، ففي ظل الترتيبات لحفل تنصيب الرئيس الجديد لولا دا سيلفا، وخلال أول أسبوع من حكمه، شوهد في العاصمة برازيلية حركة وجود بشري مضاعفة عن العادة، وتغافل حزب العمال وأحلافه في الدولة العميقة عن ذلك، بل إن جهاز المخابرات البرازيلية قد حذر أمن الولاية من أعمال شغب من أنصار الرئيس الخاسر بولسونارو قد تصل إلى اقتحام المباني السيادية للسلطات الثلاث؛ قصر الرئاسة ومجلس النواب والمحكمة العليا. ومع كل هذا إلا أن التغافل كان هو السمة البارزة في المشهد. وكان التغافل من الطرفين، طرف الجهات الأمنية المسؤولة عن أمن الولاية والتي تميل مع حاكم الولاية بالولاء للرئيس بولسونارو، وتغافل هؤلاء يندرج ضمن ترتيبات محاولة الانقلاب. وكذلك تغافل الدولة الفيدرالية وحزب لولا وأحلافه، وبهذه المعلومات إضافة إلى تأمين لولا في ساوباولو بعيدا عن الأحداث يتضح بأن تغافل الدولة جاء في سياق استدراج لأنصار بولسونارو لفخ محاولة الانقلاب ومن ثم الإدانة والتجريم والبدء باجتثاث نفوذهم في البرازيل.
فترتيب محاولة الانقلاب من طرف تيار بولسونارو باقتحام المباني الثلاثة، وقبل ذلك إغلاق أصحاب الشاحنات للطرق قبل شهرين فور إعلان نتائج الانتخابات، وهذا الحشد الجماهيري لأنصار بولسونارو كان هدفه الدفع بالجيش للتدخل، وبالأحرى هو محاولة لتشجيع الضباط المترددين في التمرد على التوجهات الأمريكية الرسمية واتباع تيار ترامب، أي تشجيعهم على الوقوف في وجه أمريكا مع ترامب.
وهذا كله لهو مؤشر على ورطة أمريكا وصراعها في البرازيل، ومؤشر على حاجة أمريكا العاجلة للتخلص من نفوذ ترامب في البرازيل.
وجدير بالذكر أن تيار بولسونارو حاليا يعول على عودة ترامب للحكم؛ لذلك حتى على هذا الصعيد تجهد أمريكا في جانبها للتخلص من ترامب كي لا يخلط عليها أوراقها أكثر في حديقتها الخلفية البرازيل، فأمريكا في أزمة حقيقية في البرازيل على إثر تشتت الولاء من أتباعها بل تصارع الموالين بناء على الصراع الداخلي بين أطراف الدولة العميقة في أمريكا.
بقلم: الأستاذ ياسر أبو خليل - البرازيل
رأيك في الموضوع