ذكرنا في الحلقة السابقة أعمال أمريكا تجاه روسيا لاحتوائها، وبيّنا أن هذه السياسة نجحت إلى حد ما في بعض الأمور؛ ولكنها لم تحقق كامل النجاح في جميع المجالات التي كانت تطمح لها أمريكا. وفي هذه الحلقة سنتحدث عن أعمال روسيا في وجه سياسات أمريكا لتبديد حلمها في جعلها تنضوي تحت جناحها، وتخدم سياساتها وأهدافها التوسعية الاستبدادية؛ تماما كما فعلت أمريكا مع الدول الأوروبية، فكان مثلها كمثل الرجل الضخم القوي، ولكنه لا يحسن التصرف بشيء!
وقبل أن نذكر أعمال روسيا للتصدّي لسياسات أمريكا لاحتوائها، نقف قليلا عند بعض الأمور التي نجحت أمريكا في تحقيقها في سياسة الاحتواء تجاه روسيا:
- لقد أنزلت أمريكا روسيا عن مرتبة الدولة الندّ للغرب، والكفة المقابلة في الموقف الدولي. وجعلت منها دولة كباقي الدول الأوروبية في هذا المضمار؛ لا تتصدّى لسياساتها في الهيئات الدولية، خاصة ما جرى في العراق وأفغانستان وسوريا. وفي سكوت روسيا وانزوائها عن معارضة أمريكا نوع من الاحتواء لمواقفها في التحدّي والمعارضة.
- سكتت روسيا عن تدخلات أمريكا في كثير من الدول، ولم تقم بتحريك ساكن حتى إنها لم تقف في وجه القواعد العسكرية، ومراكز المراقبة العسكرية على حدود تلك الدول كما جرى في البلاد الإسلامية على حدود أفغانستان.
- في الملفات الدولية الساخنة كالملف الإيراني أو الصراع مع يهود، وقفت روسيا موقف المحايد ولم تعارض سياسات أمريكا. وباتت أمريكا تدير دفة الصراع والمصالحات والحروب والاتفاقات دون أي تدخلات أو حتى معارضة من روسيا؛ بسبب انكفائها على الوضع الداخلي، أو بسبب بعض الامتيازات الاقتصادية ووعود أمريكا لها.
- نجحت أمريكا في سياسة إبعاد روسيا عن الدول الأوروبية، خاصة في ظل الأزمة الأخيرة مع أوكرانيا، حيث ألغت عقودها الاقتصادية في مجال الطاقة، وشكلت شبه انعزال بينها وبين روسيا.
- تخلت روسيا عن كثير من الاستراتيجيات العسكرية في سباق التسلح والأسلحة فوق التقليدية بعيدة المدى؛ وذلك بسبب السياسات المقصودة خاصة الاقتصادية منها تجاهها.
- سكتت روسيا عن موضوع الابتزاز الدولاري العالمي، ولم تحاول كسره أو التصدي له رغم أنها قد مرت فترة عليها تستطيع فيها استبدال سياسة العقود للطاقة بالروبل بدل الدولار وبهذا توجه ضربة قاسية لهيمنة الدولار في تلك الحقبة.
- نجحت أمريكا خلال الحقبة الماضية إلى حد بعيد في إبعاد الصين عن روسيا وعن أي تحالف سياسي أو اقتصادي في المجالات الدولية، كأسعار الطاقة أو ملف الغلاف الجوي، أو ملف كورونا، أو الأزمة الاقتصادية سنة 2008. فهذه الملفات كانت تديرها أمريكا دون أي تدخل فاعل، لا من دول أوروبا ولا من الصين وروسيا.
هذه بعض الأمور التي سلكتها أمريكا في سياسة احتواء روسيا. إلا أن أمريكا لم تقف عند ذلك، بل إنها أرادت أن تجعل من روسيا دولة تابعة لها في كل سياساتها، ولا تعارضها في أية تدخلات، حتى داخل الاتحاد الروسي نفسه. وأرادت حصرها دوليا دون إقامة أية شراكات أو تفاهمات مع الصين، أو غيرها من الدول. وأرادت إجبارها على تفكيك كامل التفاهمات والأحلاف مع دول المعسكر الشرقي السابق، وسكوتها على إدخال أو إخراج أي من الدول في حلف الأطلسي، أو غير ذلك من منظمات عسكرية.
لقد أدرك الساسة الروس أن ما تقوم به أمريكا، هو تدخل سافر في داخل بلدهم، وخاصة المعاهدات الأمنية والاقتصادية التي وقعتها مع حلفاء روسيا في أكثر من بلد، وآخرها ما قام به وزير خارجية أمريكا بلينكن هذا العام 2023 من توقيع معاهدات مع قادة خمس من الدول المستقلة. وزاد يقين روسيا هذا تجاه أهداف أمريكا؛ الحرب المستعرة التي أشعلتها أمريكا قرب بيتها بل في حديقة البيت الأمامية، وتوشك أن تنتقل إلى عقر دارها. وأدركت كذلك أن أمريكا تريد لهذا العملاق وريث الاتحاد السوفيتي أن يبقى قزما لا قيمة له ولا تأثير، ويبقى بحاجة إلى عطف أمريكا وإحسانها، تسيره كيفما تريد وتملي عليه ما تريد، وتوجهه الوجهة التي تريد. وهذا كله من أجل بقاء أمريكا على عرش التفرد الدولي بلا منازع.
لقد كشفت أمريكا عن وجهها الشرير بشكل سافر تجاه روسيا، وكانت قضية أوكرانيا هي القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث أظهرت تدخلاتها في أوكرانيا أن أهدافها ليست فقط احتواء روسيا وحصرها في مجالها أو في بيتها وحدائقه المجاورة، بل دخول البيت لتفعل ما تشاء، وتعبث بكل شيء، وتتدخل في الحدائق المجاورة، فتعقد معاهدات وتضع قواعد عسكرية، وتضم من تشاء إلى أحلافها الاستراتيجية، وتستميل اقتصاديا وسياسيا من تريد. وبمعنى آخر صارت أعمال أمريكا تستهدف روسيا كدولة عظمى، وليس كدولة فاعلة، وتستبق الأمور لجعل العالم بالمستوى نفسه؛ لإبقاء سياسة الهيمنة والتفرد الدولي، خاصة وأنه قد حصل بعض التململ من بعض الدول الأوروبية كفرنسا في محاولاتها إنشاء قوة أوروبية عسكرية تستقل بها عن حلف الأطلسي الذي باتت أمريكا تستخدمه كالجيش الأمريكي، متى تشاء وفي أي وقت. وما على أوروبا إلا أن تدفع فاتورة التكاليف، لدرجة أن ترامب قال في فترة ولايته السابقة: "لا يلزم أمريكا أن تدفع للحلف، بل على أوروبا أن تدفع لنا مقابل حمايتنا لها". وحصلت تململات أيضا من الصين في بعض الأمور، إلا أنها لم تصل إلى حد الوقوف المتحدي لأمريكا وسياستها؛ وذلك كما حصل في مسألة استبدالها الذهب ببعض سندات الخزينة الأمريكية أو مناداتها في اجتماعات قمة العشرين الأخيرة للتخلص من سطوة الدولار عالميا.
لهذه الأسباب قامت روسيا بأعمال معاكسة للصمود في وجه أمريكا وسياساتها وأهدافها الاستبدادية، وللمحافظة على نفسها من التمزيق والتدمير الاقتصادي والسياسي.
لقد وضع الرئيس الروسي بوتين أهدافا وسياسات وأعمالا داخلية وخارجية للصمود في وجه هذا التيار العاتي، وللانعتاق من كل الضغوط والمكائد التي ترسمها أمريكا تجاه روسيا، ومن هذه الأعمال والسياسات:
...يتبع
رأيك في الموضوع