إن نتائج الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية الأخيرة تمثل دليلا حسيا واضحا على فشل استراتيجي في توجه أردوغان وحزبه. فلقد تراجع حزبه بنسبة 7 بالمائة في الانتخابات البرلمانية التي أجريت بموازاة الانتخابات الرئاسية في منتصف شهر أيار الماضي. كما أن عجز أردوغان نفسه عن تحصيل نسبة الخمسين بالمائة من الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية واضطراره لخوض جولة ثانية، والنسب المتقاربة بينه وبين منافسه ممثل حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو يعتبر أيضا دليلا على تراجعه وفشله.
إن فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية بشق الأنفس وتراجع حزبه بنسبة 7 بالمائة وكذلك تراجعه الواضح في الانتخابات البلدية عام 2019 بل وخسارته لبلدية أنقرة وهي العاصمة السياسية وبلدية إسطنبول وهي العاصمة الاقتصادية، كل ذلك لا يترك مجالا للشك أنه فشل سياسيا بعد وجوده في الحكم أكثر من عشرين سنة وخاصة حين يعلن هو نفسه في الانتخابات البلدية الأخيرة أن من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا!
إن هذا الفشل يرجع إلى غياب الهوية الواضحة التي يحتاجها أي قائد كي يحدث تحولا مجتمعيا جذريا. فحزب أردوغان مثّل حالة مائعة تحاول الجمع بين المتناقضات، وتعزز حالة الاضطراب والضياع في المجتمع.
إن المشاريع المادية ليست هي ما يميز توجهاً عن آخر بالمعنى الاستراتيجي، وهي لا تعوض عن الفكرة والهوية والمشروع السياسي الشامل ذات التوجه الفكري الواضح. فلم تنهض أوروبا بالصناعة وإنما بثورة فكرية غيرت ثقافة الأوروبيين وشكلت هويتهم وطريقة تفكيرهم وكان من نتائجها التقدم المادي والثورة الصناعية وبناء الدول القوية. وهو الشيء نفسه الذي حصل في روسيا مع الثورة البلشفية. والذي أحدث الانقلاب الشامل في حياة العرب لم يكن سوى فكرة الإسلام التي اعتنقوها وأصبحوا بها أعظم قوة في العالم خلال 15 سنة.
فتمييع الجانب العقدي واعتماد التلون منهجا لا يقود إلا إلى الفشل استراتيجيا ولو حقق مكاسب آنية ومادية.
إن فوز أردوغان اليوم راجع إلى إفلاس المعارضة وضعف مرشحها وغياب المشروع الواضح لديها...
أردوغان انتهى سياسيا وأخلاقيا رغم فوزه انتخابيا
هناك فرق كبير بين أن تكون سياسيا ماكرا ومخادعا ومتلونا وتتقن فن الكذب والمناورة، وهذا حال أردوغان، وبين أن تكون سياسيا صاحب رسالة واضحة وقضية عادلة وفكرة نقية وطريقة مستقيمة ودعوة سافرة وشريعة ربانية لا مهادنة فيها ولا اعوجاج ولا أنصاف حلول ولا دجل ولا نفاق، بل قول فصل، وتمايز تام عن الباطل، وهذا ما جسده كل رسل الله وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام.
ولن تنهض هذه الأمة إلا في ظل قيادة تجسد مبدأها بشكل كامل وواضح، قيادة تصقل الأمة بالثقافة الإسلامية النقية التي تناقض ثقافة الغرب الفاسدة. بل إن العالم كله اليوم ليس بحاجة إلى رسالة لا لون لها ولا طعم تتماهى مع العلمانية الغربية التي تئن البشرية من ظلمها وفسادها.
تركيا بحاجة إلى من يضع الإسلام الخالص بوجه العلمانية كندٍّ لها يريد تحطيمها وتطهير البلاد منها كي تعود هي وسائر بلاد المسلمين إلى هويتها الأصلية التي تحقق لها الانسجام والتوازن وتمكنها من معرفة نفسها وإدراك مكامن قوتها فتعود أمة عظيمة صاحبة رسالة ربانية جديرة بقيادة البشرية وهدايتها.
إن الذين يريدون خلق نوع من التعايش بين الإسلام والعلمانية هم فاشلون ولا مستقبل لهم، وهؤلاء إنما يحاولون تغيير طبيعة الإسلام وهذا مستحيل.
إن ما قام به أردوغان هو محاولة إنهاء الصراع بين جمهورية مصطفى كمال العلمانية التي قامت على أنقاض نظام الإسلام ودولة الخلافة، وإيجاد مصالحة بينهما تقتضي أن تتخلى العلمانية عن تطرفها وأن تعطي للإسلام حيزا ولو على المستوى الفردي يتنفس فيه. وفي المقابل أن يتخلى الإسلام عن أساسه العقدي والسياسي والحضاري المناقض للعلمانية وأن يقبل أن يكون تابعا لها كما تم إخضاع الكنيسة في أوروبا.
هذا الكلام لا أكتبه للسطحيين الذين لا يدركون حقائق التاريخ ولا يفهمون حقيقة النهضة ويتلاعب بهم الدجالون والمنافقون، إنما أكتبه لمن يبحث عن طريق النهضة الحقيقية.
إن تبني أردوغان رسميا وعمليا للعلمانية وتبشيره بها وما قام به من تمييع للصراع بينها وبين الإسلام إنما عزز العلمانية في الحكم والدولة ولم يضعفها رغم زيادة مظاهر التدين في المجتمع. فالتدين الفردي لا يتعارض مع العلمانية بل هي في أصلها تقره ولا تنكره، إنما هي ترفض تدخل الدين في الشأن العام ورعاية الشؤون.
يجب أن يُعلم أن تنامي الحالة الإسلامية في تركيا ليس مرتبطا بأردوغان وحزبه وإنما هو تحول بدأ يُلاحظ منذ الستينات حين وصل عدنان مندريس إلى السلطة بعد أن أظهر ميولا إسلامية، حتى بات كل من يريد تحقيق مكاسب انتخابية بعد ذلك كحزب الرفاه وتورغوت أوزال وغيرهما يظهر ميوله الإسلامية.
لقد ركب أردوغان موجة الإسلام التي شهدت اشتدادا في التسعينات وصداما مع العلمانية، وسخرها لتحقيق مآربه السياسية من أجل تدجينها وحرفها وتسطيحها.
إن فشل أردوغان هذا هو دليل خير، فهو يثبت أن الناس قد تخدع بالمنافقين وشعاراتهم لفترة ولكن هذا لا يدوم، فالناس تبحث عن حلول حقيقية تعالج الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاسدة.
ورغم أن الناتج القومي قد ارتفع بشكل ملحوظ في عهد أردوغان إلا أن ذلك لم ينعكس إيجابا على معيشة الإنسان العادي في تركيا وإنما استفاد منه كبار التجار والرأسماليين، بل تفاقم التضخم مؤخرا وانهارت الليرة وضجّ الناس من صعوبة الأوضاع المعيشية.
لا يمكن لنظام رأسمالي هجين تابع للغرب أن ينهض بتركيا، بل لن ينهض بها هي وسائر بلاد المسلمين إلا الإسلام الكامل متمثلا بدولة الخلافة الراشدة الموعودة التي تنهي غربة الأمة وتحرر بلادها من نفوذ المستعمرين وعبثهم وعملائهم.
بقلم: الأستاذ منذر عبد الله
رأيك في الموضوع