عندما بدأ القتال في الخرطوم في 15 نيسان/أبريل 2023م صرح الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش بأن هذه الحرب هي حرب عبثية، وفي المقابل صرح قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو بأن هذه الحرب خاسرة! فبأي حجة يتقاتلان؟!
إن الجيش والدعم السريع يخوضان حربا يجمعان فيها بين العبث والخسارة، هذا بالنسبة لهما. ولكن أعجب ما في هذه الحرب هو العبث بأرواح الناس وأعراضهم وأمنهم، فقد سقط منهم آلاف القتلى والجرحى، وتم تهجير عشرات الآلاف، وتدمير المساكن، ونهب الأسواق عن بكرة أبيها، وإضرام النار فيها، وسرقة البنوك والشركات ونهب أثاثها، وسرقة المخازن العملاقة.
فكان العبث الحقيقي والخسارة الحقيقية إنما هي واقعة على الناس، كأن الحرب موجهة مباشرة ضد الأمة، فقد ترك الجيش البلد مستباحا تماما، فقوات الدعم السريع تدخل البيوت، التي عظمها الإسلام في الحرمة، فتطرد منها أهلها والجيش يتفرج! بل يرسل القذائف فتهدم هذه البيوت، بحجة وجود قوات الدعم السريع التي احتلت هذه المساكن، بيتا بيتا. ومن المعلوم أن قوات الدعم قد انتشرت في مدن العاصمة الخرطوم الثلاث.
وفي ظل هذه الأجواء تظهر مجموعات من العصابات، وقد أطلق سراح كل السجناء من سجون العاصمة، والمجرمون انضموا إلى صفوف الفاسدين، وظهر الإجرام بأنواعه، فقد وثقت جمعية العنف ضد المرأة 12 حالة اغتصاب في الخرطوم و25 حالة في دارفور، وقالت المنظمة إن النسبة الموثقة لا تتجاوز 2% من الرقم الحقيقي للاغتصابات، غير أن ناشطين يتحدثون أن الرقم يفوق الآلاف، ولا يتم الاعتراف بهذه المصيبة غالبا للمجني عليهن.
كان من تدخل أمريكا في الشأن السوداني أن تولت ملف الهدنة والمصالحة والممرات الإنسانية كما يدعون، بمعية السعودية، فبدأت بإصدار قراراتها بعد جمع ممثلين للمتقاتلين. وكان من أغرب ما نصت عليه الهدنة في الجولة الأولى فتح الممرات الإنسانية لخروج الناس من المدينة آمنين!
لقد تواطأ الجميع على إخراج الناس من بيوتهم بدلا من خروج من قتل الأبرياء وروعهم وسمح بسرقة أموالهم وانتهاك أعراضهم من المدينة. لقد اختفت الشرطة واختفت قوات الاحتياطي التي ما ظهرت إلا يسيراً، فتركت كل القوى الأمنية الحبل على الغارب ليفعل بها شيطان الحرب ما يشاء. وهذا رسولنا الحبيب ﷺ عندما مر السيل قرب المدينة بصوته الهادر خرج عليه الصلاة والسلام ليسبق الناس ويعود بعد أن اطمأن قائلا للناس: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا إنه لبحرٌ».
ولكن في الخرطوم ومدن السودان كان الشقاء ملازما للناس؛ غلاء طاحن في وسائل النقل وتوقف للأعمال وللمدخولات، فأفلس الناس وجاع آخرون وانحبسوا في المعابر.
لقد عبّرت امرأة بصورة تبين هذه المسرحية التي يقوم بها البرهان مع قوات الدعم السريع، حيث كتبت في تغريدة لها: "كفاكم يا برهان ويا حميدتي لقد أدبتمونا بما يكفي"! انتهت تغريدتها المعبرة التي لمست فيها أن هذه الحرب موجهة لتأديب الناس بالفعل والعمل، وليست بين المتقاتلين.
إن أمريكا حكمت بإطالة هذه الحرب؛ ففي خطاب لمدير المخابرات الوطنية الأمريكي أمام الكونغرس قال "إن هذه الحرب ستطول". والمعلوم أن أمريكا داعمة لقيادة العسكر في السودان. وقد أشار القائد موسى هلال في لقاء معه أن المخابرات الأمريكية حاولت أن تجنده فرفض ولكن حميدتي قبل بذلك. فكلا المتقاتلين مدعومان أمريكيا. وعندما حدثت فضيحة الجنينة بأحداثها المرة أدانت أمريكا قوات الدعم السريع واستخدمت ألفاظ الدبلوماسية الحقيرة؛ فقالوا ندين بأقسى العبارات! نعم إدانة لفظية، ولكنها أدانت الجيش كذلك؛ ما يعني أمرا واحدا وهو أن أمريكا لا تريد أن تنصر طرفا على الآخر، فكلاهما ينفذان مخططها في السودان المبني على علمنته وتمزيقه.
أما على الصعيد الميداني، فقد قال قادة الجيش والداعمون له إعلاميا، بأن خطة الحرب الحالية التي يخوضها الجيش السوداني تعجبت من حنكته القتالية أمريكا وروسيا، بل ويستخفون بهدم المنشآت وقتل الأبرياء بأن نسبة الهدم في الخرطوم لم تتجاوز الـ10% ولكن في سوريا مثلا فاقت الـ60 %! فأي عقلية هذه، لا بارك الله فيهم؟!
وما إن يسيطر الجيش على مكان إلا وتركه لقوات الدعم السريع من جديد، فالحرب غير حاسمة بل مجرد كر وفر.
وعندما طلبت قيادة الجيش قوات من الدمازين، تم التعامل مع هذا التحرك بعد وصوله للخرطوم بطريقة تضاربت فيها الأخبار، أهمها النتيجة النهائية حيث تمت إبادة المئات منهم على يد قوات الدعم السريع ولم يحسن الاستفادة منهم في المعركة، ما حدا بالبعض لاتهام قيادة الجيش بالخيانة والاختراق.
فالناس مجمعون على أن القوات المسلحة إذا أرادت أن تقضي على قوات الدعم السريع فهذا ممكن، ولكن القيادة لا تريد ذلك. وأمريكا لا تريد ذلك، وتريد أن يكون النفوذ المطلق في السودان لها، لذلك تخطط منذ انقلاب البرهان وحميدتي في 2021 لإقصاء المكون المدني الذي تسيطر عليه بريطانيا، فكان إشعال هذه الحرب إيذانا بإقصاء بريطانيا وعملائها من النفوذ في السودان. ولكن إذا كانت أمريكا تقف مع هذه الحرب المهزلة وتقف مع قيادات المتحاربين، فكيف تنجح في جمعهما من جديد؟! وقد نجحت في إطالة أمد الحرب، والبرهان ساعد في عدم تمكين الوحدات العسكرية والكتائب من حسم المعركة لصالح الجيش، ما يعني ببساطة أن أمريكا يمكنها لملمة أطراف المسرحية سيئة الإخراج وتلحق ختمها قبل انفجار الجيش ضد قائده البرهان. فتعقد أمريكا اتفاقية مذلة جديدة بينهما ليست لصالح شعب السودان بالطبع. فلم يكف أمريكا أنها وضعت اتفاقية نيفاشا التي فصلت الجنوب، ولم تكفها اتفاقية سلام جوبا التي وقعها حميدتي مع الحركات المسلحة، فهددت أمن السودان بعامة وأمن دارفور بخاصة بل أقصت الأمن عنه كما نرى، وأهّلت بقية السودان للانفصال تحت الحكم العلماني.
نعم إن أمريكا ما دخلت بلدا إلا وأذلت أهله وسرقت ثرواته، فيمكنها ببساطة أن تحيي قوات الدعم السريع من جديد لتكمل بها مهمة تمزيق السودان وتبقي الجيش مع أنه قوي ولكن بقيادة ضعيفة تمرر كل المؤامرات والدسائس.
إن الحل حتى نوقف هذه المهازل والمسرحيات هو بأن يقف الجيش مع الأمة فيرد السلطان إليها لتختار رجلا يقودها بالإسلام، وهذا الحاكم لن يكون تبعا لأمريكا ولا لأوروبا، بل تبعا لكتاب الله وسنة رسوله؛ يوحد هذه الأمة ويجعل جيشها واحدا فيملأ الأرض عدلا وأمنا بعد أن ملئت ظلما وجورا.
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحمن تنديلي – ولاية السودان
رأيك في الموضوع